إيتيل عدنان: الشاعرة الكونية بروح طفل

ثمة شيء عابث يخالج تعاطي إتيل عدنان مع الشعر، لا للإيحاء بأنّ لا جدية مشحونة ببواعث تراجيدية تشوبه، وإنما لأنها – كفنانة – تعي لعبها بدمى الطبيعة ونيرانها، تصلها صلة حميمة بموجودات العالَم المحسوس، وتقترب اقتراباً صوفياً، مطالبة القارئ بأن يشاركها نسج شبكة من صور نجدها في الغالب مادية، بل ودنيوية.
تجلب الشاعر إيتل عدنان رؤى كونية إلى تأملات جديرة بامرأة متعددة اللغات متعددة القوميات مولدها في بيروت (1925) لأب سوري وأم يونانية، ولغتها الفرنسية، ومستقرها كاليفورنيا وباريس.
تنتمي عدنان إلى جيل من الكتاب العرب الأميركيين تألق في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين غير أن قصائدها تنحو نحو الإنسانية لا الهوية بمنظورها القومي. درَست الفلسفة في السوربون ثم التحقت بجامعة بيركلي عام 1955 وبعدها جامعة هارفارد. عمدت إلى توجيه نقد لاذع إلى العالم العربي فاصطبغ شعرها بسمات تتخطى الحدود العرقية وتراءى وكأنما ينطق بلغة كونية لا تتكل على مفاهيم فلسفية غائمة المعالم، وإنما على كفاح الإنسان المادي والثقافي من أجل البقاء في سياق الظلم والحرب، تجاهر في قصيدة "قطار الجحيم السريع إلى بيروت" المكتوبة بالفرنسية (1973)، "في نيويورك ألعن أمريكا/ في موسكو ألعن ستالين/ أهلاً بالمتسول/ أهلاً بالفدائي/ أهلاً بمحمد الحالم/ أهلاً بالسجين… أهل بيروت… خذوا فقراتكم الظهرية واعصروا/ الاستعمارية كما الصديد".
لا إجابة ممكنة
سئلت يوماً عن صلتها ببيروت، فباحت بأن السؤال فتَح أمام عينيها "عالَماً. لا إجابة ممكنة". كانت قد شهدت الحرب الأهلية في لبنان وكتبت رواية نسوية باللغة الفرنسية تُعرِّف هذه الحرب – "الست ماري روز" (1977) الفائزة بجائزة جمعية الصداقة الفرنسية العربية. تعتمد الرواية على قصة حقيقية لامرأة قتلتها الكتائب المسيحية بسبب دعمها للقضية الفلسطينية. صرخت فيها، "لقد أهينت بيروت" لتأسر بإيجاز تجربة القتال، "كابدتْ الهزيمة؛ خسِرتْ. إنها أشبه بكلب ذيله بين ساقيه. غفَلتْ عما حولها لدرجة الحماقة. جمعتْ داخل بطنها السلوكيات والعادات، العيوب والانتقام، الذنب والفسوق في العالَم بأسره. والآن تقيأت كل شيء، وملأ القيء كل مساحاتها".
عندما تضامنت عدنان مع الجزائر في حربها من أجل الاستقلال، فطنت إلى المضامين السياسية للكتابة باللغة الفرنسية، وفي مساندتها للثورة الفلسطينية عبّرت بالشعر والرسم، ومؤخرا عبّرت عن تأييدها للثورة السورية لأجل تحول ديمقراطي يصون كرامة البشر وحرياتهم. وعليه حوَّلت بؤرة إبداعها إلى الفن التشكيلي الذي تصفه بأنه "نوع من الشعر يعبِر عنه الرسام بصرياً. ولا بد أن يكون عفوياً خاطفاً". تستخدم عدنان سكيناً لرسم اللوحات الزيتية، لا فرشاة، وقد عرض معرض دوكيومنتا سكينها مع قطع من متحف بيروت القومي، محروقة منصهرة حين حوَّل جنود الميليشيا المتحف إلى موقع للقتال.
تُعرِّف عدنان نفسها بأنها مواطنة عالمية لا تنحصر همومها في حدود ضيقة، وهنا يكمن تفرد ديوانها "بحر وضباب" المكتوب باللغة الأنجليزية والفائز مؤخراً بجائزة كاليفورنيا لأفضل ديوان وجائزة "لامبدا" للشعر المثلي، إذ تخلو سطوره من فكرة سردية مهيمنة تمتد من البداية وحتى النهاية، كما تتجرد الشخصيات – بل وكلمة "أنا" – من هوية محدَّدة. لا خريطة أو بوصلة قد يستعين بها القارئ، ومع ذلك نَعلم علم اليقين ما تقصه من حقائق مظلمة حين تروي، "كونيات الرعب: موضوع متكرر في التاريخ عن/ الأجساد المعذَبة الملقاة كنفاية… نؤمن/ بتفرد هذه العصور كما نؤمن بأصالة السماء./ لا بد للقبيلة من هذا الإيمان". قد يُمثِّل البحر أقدم رموز الحياة والموت والتغير الأبدي على حين لا يَسلم الضباب من الغموض بل والهلاك. تتناغم عدنان مع أبياتها، "لا أشعر بالاكتمال إلا في الضباب"، مؤكدة أننا نكتب والصمت يلفنا. شيء ما يخدعنا مع كل صفحة.
قد يخالها المرء فيلسوفة، لا شاعرة، وهي تنسج متعاً صوتية تشحذ عالَم المادة وعالَماً آخر مضاداً للمادة. كثيراً ما تتلون قصائد "بحر وضباب" بالمتناقضات، القوة والرقة، الخضوع والنبل. تصفها الشاعرة إلماز أبي نادر (1954) بأنها "مزامير تتراوح بين الجليل والعنيف، رحلة من وادي يوسِميتي إلى سيارة جندي في الصحراء، تستلهم الروائي الروسي ديستوفسكي والشاعرة الأمريكية سكالابينو. تاريخ، إنجيل، كتاب صلاة، تتأمل الإلهي".
كان الشاعر الأمريكي روبرت بلاي (1926) قد قال إن موهبة الشاعر السويدي توماس ترانسترومر (1931) تكمن في إدراكه متى يتوقف عن الكتابة ليتردد صدى البلاغة في هوامش القصيدة شأنها شأن النغمات الموسيقية. يتراءى لي أن عدنان تَنعم بالموهبة نفسها، لا تصوغ المقطع الأخير كي يُعبِّر متعالياً عن حكمة أخلاقية، وإنما تتيح للقارئ فرصة لإتمام ذلك المقطع المتواري عمداً.
لا ريب أن "بحر وضباب" ديوان يقترب من الملحمة لِما يتضمنه من إدانة للإمبريالية والوحشية وفلسفة كلاسيكية تنفذ إلى الحقيقة عن طريق التوحد. تندمج هذه العوامل مع ما أسماه الناقد الفلسطيني المنشأ الأميركي الجنسية إدوار سعيد (1935-2003) "الأسلوب المتأخر"، أي المتأخر في حياة الأديب. قد تخفق جرأة عدنان في التغلغل إن بدرتْ من كاتبة شابة، ولكن بمقدور الكاتبة المخضرمة أن تنهي إلينا، "أنفقنا عمرنا نركض وراء الحياة، نركض مرتطمين بالجدار الواهن، نفتش عن الطاقة لنموت".