الإنسان ذو البعد الواحد
لا جدال أن التطورات العلمية في القرن الأخير نقلت البشرية من عصر إلى عصر، عصر استعاض فيه الإنسان عن الحمام الزاجل بالإنترنت، وعن العربات المجرورة بالطائرات النفاثة، وعن الدواة والقلم بالحاسوب والطابعة وما إلى ذلك من مستحدثات تكنولوجية سهلت عيشه وقلصت مسافاته ومهدت لتواصله مع من يشاء في أبعد نقطة على سطح الأرض، ولكنها أحدثت أيضا، في بعض أوجهها واستعمالاتها، تحولا عميقا في نمط حياته، لا ينحو دائما نحو حياة الدعة والكفاية التي يصبو إليها. من ذلك مثلا هيمنة ثقافة الشاشة التي توشك أن تذهب بعازب العقول، إذ احتلت الشاشات مختلف جوانب الحياة اليومية، حاضرة على الدوام بشكل خطير.
وخطرها مرده إلى سببين: أولهما تميز عصرنا هذا بتسارع في الزمن، للشاشات دور هام في تطوره. فعالم الشاشة لا يهجع أبدا، حتى وإن أطفئت الحواسيب، ونام أصحابها، والسباق المحموم يتواصل لأن سيل المعلومات لا يتوقف، ومن الغد يهبّ النائمون للاطلاع على ما فاتهم أثناء نومهم من رسائل وأخبار وصور وفيديوهات مع ما يتبعها من انفعالات، وهو ما يجعل مستعمل الإنترنت في حالة تبعية وتعلق وخضوع، مثلما يفقده إحساسه بالزمن ويشوش ذهنه فلا يعرف من أين يبدأ ولا عمّن يردّ. وثانيهما، لأن الشاشة هي القناة الرئيسية، وربما الوحيدة، التي تصل الإنسان بالعالم.
وتواصل ذلك حتى في عصرنا الحاضر مع مدرسة فرنكفورت (أدورنو، هابرماس، ماركوز، بنيامين) التي انتقدت النزعة البرومثيوسية الكامنة في الحداثة الرأسمالية. فالعقلانية التقنية تريد ترويض العناصر، والسيطرة على الطبيعة، وابتكار أدوات لا تني تتطور في دقتها وأدائها، ولكن يحدث أن ينقلب المشروع البرومثيوسي على الحداثة في بعدها المحرِّر، لأنه أهمل أبعاد الإنسان الأخرى. وهو ما عبّر عنه هربرت مركوز في نظريته عن “إنسان البعد الواحد”.
ولسائل أن يسأل: أما من سبيل إلى قطع الاتصال، والتخلي عن الشاشة نهائيا؟ والجواب كما يرى الفيلسوف الألماني هرتموت روزا أن الأفراد لا يملكون إجابة، فلا التأمل ولا التصوّف ولا اليوغا بقادرة على إبعاده عن الشاشة، لأن حضورها بمثل هذه الكثافة هو ظاهرة سياسية وثقافية، وتغيير تلك الظاهرة يتطلب تحولات اجتماعية مدروسة ومتفق عليها سلفا. ولا بدّ، يقول روزا، من إعادة النظر في السياسات الدولية وإخضاع الرأسمالية إلى المراقبة الديمقراطية.