الانفجار التاريخي وخطاب الردة

الثورة، بوصفها فعلا سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا ونفسيا، جماهيريا (منتظما أو غير منتظم)، هي نتاج تفاقم أزمة، على الصعد سالفة الذكر، كافّة. وفي سياق طرح الثورة تصوّرها لهذه الأزمة، وطرق تفكيكها وحلها، فالثورة أيضاً، يمكن أن تعيش وتنتج أزمة أو أزمات وليدة، تضاف إلى الأزمة الأمّ، التي خرجت من رحمها الثورة. ولعلّ ذلك من طبائع الأمور، إذا ما نظرنا إلى تاريخ الثورات التي شهدها العالم، ابتداء بالثورة الفرنسيّة سنة 1789، مروراً بثورة أكتوبر سنة 1917 في روسيا القيصريّة، وصولاً لما جرى في كوبا، كوريا، الصين، فيتنام.
الثورات التي عاشتها البلدان العربيّة في السنوات الأربع الأخيرة، من ضمن ما أطاحت به، فإنها أطاحت بتلك التعريفات النمطيّة والتقليديّة، خاصة منها اليساريّة، حول ماهية الثورة، المستندةً على المقولات اللينينيّة، تمثيلاً وليس حصراً “لا حركة ثوريّة دون نظريّة ثوريّة أو حزب طليعي ثوري”. دون أن ننسى بأن هذه التعريفات اليساريّة التقليديّة، تحجج بها كل مناهضي هذه الثورات، ليس من اليساريين وحسب، بل وحتّى الذين كانوا ينبذون أو لا يهضمون الفكر اليساري، من قوميين وليبراليين!
ومهما كانت الثورات الأخيرة، أقرب إلى الفورات الاجتماعيّة الجماهيريّة غير المنتظمة، أو حتّى إلى الفوضى، منها إلى الحراك المنضبط المنظّم المتفاعل، أفقيّاً وعاموداً، في بنى المجتمع، فإنها، ولو بنسب متفاوتة، أنتجت قدراً من الصدمة أحدثت خضّة وهزّة عميقة، أفرزت بدورها أنساقاً عديدة من الخطابات المتوتّرة والموتورة أيضاً، لكنها لم تستطع حجب الخطاب التنويري-التغييري، الذي يحاول تجاوز تراكم الإرث السياسي، الاجتماعي، الثقافي، التربوي، والنفسي، المكتسب من الأنظمة الاستبداديّة الفاسدة والمفسدة. فضلاً عن فضح هذه الثورات، حقيقة الدوغمائيّة الدينيّة-السياسيّة، وتوحّشها، وأزالتها عنها مساحيق الكلام المنمّق وزيف ادعائها نبذها العنف، وخرافة تبنّيها الدولة المدنيّة الديمقراطيّة. كما أزالت عن هذه الحركات الدينيّة الإسلاميّة-السياسيّة سحر المعارضة وبريق المظلوميّة التي لطالما تحججت به، أثناء سعيها الوصول للحكم.
بتقديري، في هذا السياق، يمكن قراءة الحوار الذي أجرته مجلة “الجديد” مع المفكّر السوري الطيب تيزيني، والمنشور تحت عنوان “زمن الإنسان الوحش: العودة إلى ما قبل التاريخ”. وإذا كان العنوان، صادماً ولافتاً، ومعبّراً عن هذه الفوضى الدمويّة العمياء التي تطيح بالمنطقة، ولا تكتفي بتمزيق أنسجتها الاجتماعيّة وحسب، وبل تحفّز وتؤجج تراكم الغرائز القوميّة، الدينيّة، الطائفيّة، المناطقيّة، القبليّة، التي كانت مبيّتة، ولكنها لم تنمْ قط، وصولاً لإعادة الإنسان إلى زمن الغابة والتوحّش، وكأن هذه المنطقة، تعيش “خارج الزمان” الذي يعيشه العالم، فإن ما يحدث، يمكن وصفه بالردة عن القيم الإنسانيّة والغرق في قيم الغاية، وبل ربما أفظع من ذلك أيضاً.
غالباً ما تترافق الثورات مع الكثير من الاهتزازات والانهدامات في الأفكار والقيم والمبادئ، حيث ربما يهبط أو ينزلق الحال إلى الحرب الأهليّة العميقة أيضاً، وما تخلقه هذه الحروب من هياج وفوران العصبيّات وحلولها محلّ العقل وفكرة العيش المشترك
وتأكيداً لما ذكره تيزيني في حواره مع “الجديد” حول المقدّمات التي تضافرت كي تنتج “اللحظة التاريخيّة” التي أفضت إلى حدوث هذا الانفجار، وتبعاته التي ما زلت مستمرّة، وأن التمرّد لم يقطع مع تركة الاستبداد والفساد، بقوله “كان التراكم في مظاهر الاحتجاج على غياب الكرامة والعمل يقابله تعاظم في تراكم المزبلة، الذي ما اكتشفناه تحت مصطلح “قانون الاستبداد الرباعي” في المجتمعات العربيّة، أي الاستئثار بالسلطة والثروة وبالإعلام وبالمرجعية المجتمعية المتمثلة في أن الحزب الوحيد الحاكم يقود –مع قائده- الدولة والمجتمع، من هذا جاءت عملية التمرد على الواقع المعيشي أقل من أن تُحدث قطيعة مع الماضي المدجج بالمذلة والمهانة والإفقار والاغتراب، وأضعف من أن تواجه الحاضر بترسانته ذات الجذر المتمكن في قانون الاستبداد الرباعي ذاك“. ذلك أن من عاش في كنف هذا المناخ المسموم 40 أو 50 سنة، من الصعب عليه، إن لم يكن مستحيلاً، التبرّؤ من كل أمراض وعلل وميراث ومورّثات هذه المرحلة، في أربع أو خمس سنوات من الثورة.
|
الحدث الاجتماعي-السياسي-الثقافي المتفجّر في سوريا، فضح أو كشف عن كل الخزين المتراكم من الأحقاد والضغائن المتوارثة، والتي كان النظام يتستّر عليها، ويغذيّها -كما أسلفنا- كي يطلقه ليوم كهذا، في إطار طرحه مفاضلته القاتلة على السوريين: إمّا أنا واستبدادي وفسادي وإفسادي؟ أو هذه الفوضى الدمويّة العمياء، والتي إحدى تجليّاتها “داعش” و”النصرة” وكل فصائل وكتائب التكفير المسلّحة.
برحيل الحاكم المستبدّ، لا يزول حكم الاستبداد. ذلك أن البراء والشفاء التام من كل الموروث الاستبدادي والإفسادي الذي اكتسبه المواطن، منذ نعومة أظافره، ولحين تسليمه للتراب، جثّة هامدة، يكون هذا المواطن، قد مرّ بصيرورات أو قنوات عديدة
*****
مفهوم الردّة، صحيح أنه آتٍ من القاموس الديني، إلاّ أن الشيوعيين أيضاً استخدموه في وصف المنشقين عنهم ومنتقديهم، كما وصف ليبين الفيلسوف الألماني كارل كاوتسكي (1854-1938) بالمرتدّ، في كراسه؛ “الثورة البروليتاريّة والمرتدّ كاوتسكي”. نفس الوصف، المرتدّ أو المنحرف، أطلقه ستالين والستالينيون على ليون تروتسكي (1879-1940). وبالتالي، كل منشقّ عن الدوغما أو الطغمة السياسيّة-الأيديولوجية، امتلك مشروعاً أو أفكاراً نقديّة تجاه هذه الدوغما أو الطغمة التي كان ينتمي إليها، تم اعتباره مرتداً، منحرفاً، مناهضاً للحقيقة، ومشوّهاً لها، داعياً إلى الضلال، مثيراً للجهل والتضليل والبلبلة بين جموع الشعب، وخائناً للثورة وطريقها وسلطتها ودستورها. لائحة التهم هذه، يمكن اختصارها بالتخوين. ويوازيها في العرف والتقليد الإسلامي-السياسي، مفهوم التكفير. والعقوبة في كلتا الحالتين، هي إقامة الحد، والتصفية المعنويّة أو الجسديّة.
ومع انطلاق الثورة السوريّة منتصف مارس 2011، واتساع رقعة المظاهرات، والتفاعل الإقليمي والدولي معها، قفز الكثيرون ممن كانوا في سفينة النظام، بشكل مباشر أو بغيره، إلى سفينة الثورة، ليس درءاً بالنفس من تبعات سقوط النظام، بل من باب إعادة التموضع في السلطة القادمة، وضمن الفريق الجديد الذي سيأتي إليها. كذلك الحال، نحا الكثير ممن ركبوا موجة المعارضة، أو لمّا يزالوا يركبونها، مع طول عمر النظام، وتزايد نسبة احتمال بقائه، نحا هؤلاء منحى معاكساً لقيم ومبادئ وأخلاق ثورة الحرية والكرامة، وصاروا يشككون فيها، حيناً ويطعنون فيها أحياناً أخرى، في ما ينطبق عليه وصف “الردّة” عن الثورة السوريّة.
كذلك الحال، لدى الكثير من المنخرطين في الثورة، ممن كانوا أصحاب أفكار ورؤى ليبراليّة، علمانيّة، ديمقراطيّة، خاصّة المحسوبين على الوسط أو الحقل الثقافي، رأيناهم كيف “ارتدوا” عن الأفكار والمشاريع المدنيّة-العلمانيّة التي كانوا يتبنونها، ويطرحونها، ويروّجون لها، قبل الثورة، وفي مطلعها، وصاروا يلتمسون الأعذار والمبررات والمسوّغات للخطاب الديني المتطرّف، ببعديه القومي والطائفي.
ما فاقم تلبّد المشهد أكثر، وزاد من عمر نظام الأسد الأب والابن، هي حالة الردّة التي عبّرت عن نفسها ثقافيّاً وسياسيّاً، في مطلع الثورة السوريّة
على الطرف المقابل، حالة الارتداد عن قيم وأخلاق ومبادئ الثورة، سالفة الذكر، خلقت وحفّزت وعززت، مثيلاتها في الحقل الثقافي-السياسي لدى باقي مكوّنات الشعب السوري، لنشهد حالة من الارتداد عن كل ما هو وطني، ثوري، جامع -غذّته ثورة الحريّة والكرامة- نحو كل ما هو قومي، إثني، مناطقي، في سياق حالة من التشنّج والاستقطاب والتجاذب المسموم.
الخطاب الشبابي
ولا يرى تيزيني أن ما طرحه الخطاب الشبابي في البدايات ينتمي “إلى منظمة الخطاب المسيّس، الذي أطلقته أجيال أخرى سابقة تنتمي إلى الماركسية الطبقية والقومية العربية والثالثة الناصرية والوطنية السورية غداة الاستقلال السوري عن فرنسا المستعمرة. نعم، لم يكن الخطاب الشبابي في البدء ناضجاً، بالاعتبار الإصلاحي الوطني، ولكنه كان حذراً وأحياناً قلقاً، وهو الآن يحقق نمواً مترافقاً مع الانتصارات والانكسارات“.
القوى، وبالتعاضد الخفي أو غير المباشر والموضوعي مع النظام، ساهمت في تشويه هذا الخطاب وتلويثه وعرقلة نضوجه، لئلا يخلق حالة معارضة وطنيّة حيويّة نشطة
ومن ضمن الأسئلة التي طرحتها مجلة “الجديد” على تيزيني، السؤال التالي “انهيار فكرة القومية العربية جعل خيار التقسيم أكثر تداولا بين المشاركين في الأفعال الثورية حاليا، وخصوصا أن الأنظمة القمعية ساهمت في تفتيت الصيغة المتماسكة للدول العربيّة إلى جانب التدخلات الخارجية، فبدأت أفكار الانتماء بالانهيار بسبب دعم طرف على حساب آخر، هل يمكن أن نشهد نشوء دول جديدة في المنطقة (كحالة جنوب السودان)؟ وهل هذه الدويلات (أو الفيدراليات) من الممكن لها أن تقدم صيغا أكثر نجاحاً من التجارب السابقة؟ أم أنها ستغرق في الحروب والصراعات المذهبية والتسليح؟ أعتقد أنه ثمّة فكرة واردة في مقدّمة السؤال، هي أيضاً،، بحاجة إلى نقاش، لجهة افتقادها الأسانيد.
بينما ما يطرحه تيزيني في إجابته على السؤال المذكور آنفاً، هذه الإجابة، بحاجة إلى المزيد من النقاش. حيث يقول “إن القول بانهيار فكرة القومية العربية لعله غير دقيق، فما حدث ربما مثّل حالة مفتوحة من التفكك، الذي أنتج مثل ذلك القول، وإنما نفضل القول بأن ثمة هزة عميقة أتت على الفكرة المذكورة وعلى العوامل المجتمعية التي تمثل حاضنة أو حاضنات لها“. ذلك أن انهيار فكرة المشروع السياسي الدولتي للقوميّة العربية، سبق الثورات الأخيرة بعقود، عبر انهيار دولة “الوحدة القسريّة” أو “الوحدة الارتجاليّة” بين مصر وسوريا سنة 1961، ودخول جناحي المشروع القومي العربي، البعثي والناصري في صراع، أيديولوجي، سياسي، وعسكري أيضاً. ثم دخول حزب البعث في نفق الصراع الداخلي، سنة 1966 و1970، وحرب اليمن، التي كانت في الأصل صراعاً بين مصر والسعوديّة، بالإضافة إلى صراعات وخلافات الدول المغاربية (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، موريتانيا)، والتورّط السوري في الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وما نتج عنه، في ما بعد، من احتلال نظام الأسد لهذا البلد، ودخول النظام الناصري-الساداتي في صلح مع إسرائيل منفرداً. وغزو العراق للكويت…الخ، كل ذلك، وغيرها من المعطيات والأحداث التي تشير إلى أن صيغة الدول العربيّة لم تكن متماسكة. وإذا كان هنالك ثمّة استثناء لهذه القاعدة، فهي التجربة الإماراتيّة وحسب.
أمّا عن قول تيزيني “حقاً نحن نلاحظ اتجاهات هنا وهناك ليست بعيدة عن فكرة تقسيم سوريا، لكن دعاتها يدركون -على الأقل براغماتياً ومن ثمة حفاظاً على مصالحهم- أن تكوين دويلات سوريّة منفصلة إنما هو أمر غير قابل فعلياً للتطبيق وغير مقبول دولياً كذلك، ناهيك عن أن هذا يعني انهيار الاقتصادات الجزئية وذات الوجه الواحد الذي قد تقود إذا ما نشأت إلى كوارث اقتصادية واجتماعية، ويبقى العائق الأخير المتمثل في المجموعات والطوائف التي يُراد لها أن تنفصل عن سوريا –ربما عدا الأكراد- لكنها ترفض ذلك بمخزونها الوطني السوري والقومي العربي“.
|
أمّا استثناء تيزيني للأكراد، عن الحالة الوطنيّة النابذة والطاردة للتقسيم والانفصال، ضمن مكوّنات الشعب السوري، وقوله “يبقى العائق الأخير المتمثل في المجموعات والطوائف التي يُراد لها أن تنفصل عن سوريا –ربما عدا الأكراد- لكنها ترفض ذلك بمخزونها الوطني السوري والقومي العربي ، هذا الرأي أيضاً، يقف بالضد من معطيات التاريخ الحديث لسوريا. فمنذ تشكّل الكيان السوري، بيد الاستعمار الفرنسي-البريطاني للشرق الأوسط، والكرد السوريون يحاولون أن يقنعوا الشريك العربي (الأغلبيّة) بأنهم ليسوا انفصاليين، ويريدون العيش معه في وطن واحد.
وإذا كان صحيحاً، ما يطرحه تيزيني بقوله “فكرة التقسيم السوري غير مقبولة من أكثرية الطوائف والأقليات، لأن الجغرافية السورية والأخرى المحيطة أي الإقليمية، لا تمثل بديلاً إيجابياً محتملاً، وإذا كانت النظم الاستبدادية قد أحدثت شروخاً وانهيارات قد تؤدي إلى إجماع في الرأي بين مجموعات انفصالية على شيء من التقسيم، إلا أن الجمهور السوري الواسع لا يحمل هذه الرغبات والميول على الأقل من موقع رفض الاستفراد به طائفياً ومذهبياً وغيره“، فإن استثناء الكرد السوريين عن حالة الرفض هذه، عدا عن الظلم الكامن فيه، فهو استمرارٌ في تكرار إسطوانة الانفصالي التي لطالما كررها النظام وآلته الإعلاميّة، والأمنية والسياسيّة بحق الكرد السوريين.
ومع القليل من الاختلاف حول ما طرحه تيزيني في حواره مع “الجديد”، لا خلاف أن الثورة السورية تعاني من أزمة حقيقيّة وجديّة، سعى تيزيني نحو تفكيك بعض حيثياتها المركّبة، وتعقيداتها الشائكة، وتوصّل إلى خلاصات، نسبة الاتفاق معه فيها، هي أكبر من نسبة الاختلاف. وما بات يكتسب درجة الوثوق لديّ، أن ثمّة حالة من “الردّة” انجرف إليها الكثير من المثقفين السوريين، كرداً وعرباً، مسحيين ومسلمين، الذين من المفترض بهم أنهم أصحاب أفكار تنويريّة أو يمتلكون قدراً من النزوع نحو التحرر من الركام ذهنية وتقاليد الاستبداد، باتوا مواربين، أو منحازين إلى بيئاتهم القوميّة-الدينيّة-الطائفيّة، خشية إثارة هذه البيئات، وكسب عداوتها وتخوينها لهم. لذا، انزلق أو ارتدّ هذا الخطاب، نحو الداخل، متماهياً مع شعبويّة مفرطة، ترتدي لبوس النخبة المنقادة لـ”إرادة الشعب”، وهي في الأصل، انقياد لأهواء وغرائز جموع الشعب، بصرف النظر عن طبيعة هذه الجموع، معقلنة أم من دهماء وغوغاء التحزّب والسياسات المؤدجلة.
والحقّ، أن ردّة هذه النخب، بدأت بمهادنة بيئاتها المسمومة، ثم انقادت إليها، بدلاً من إكمال المشروع التنويري في تنقيتها من موروث الفساد والاستبداد الذي ضخّه النظام الحاكم، بكل ما يمتلك من دوغمائيّات تاريخيّة متوارثة، دينيّة وطائفيّة ومذهبيّة وقوميّة.
فاليساري المتطرّف الذي جنح للاعتدال، وصار يقبل الحوار والتواصل والتشارك مع البرجوازي، القومي أو الديني، فقد اعتداله ذاك، بأن ارتدّ إلى تطرّفه، أو ارتدّ عن يساريّته وليبراليّة، واندغم في السياق الإسلامي السياسي المتطرّف.
اليساريون المطالبون بالتغيير، تخندقوا مع النظم الاستبدادية التي عارضوها، بحجة أن الآتي أعظم، وبحجّة أن الإسلاميين سيكونون البديل
والقومي، العربي والكردي، الذي جنح إلى الاعتدال، وصار يدافع عن حقوق شريكه، ويناصر قضاياه، ارتد عن ليبراليته وعاد إلى أصله الأيديولوجي القومي، لدرجة التطرّف والتصادم مع الشريك، ومصادرة حقه في الوجود، والتعبير عن هويّته بحريّة وطلاقة، دون تقليل أو تقصير أو تهديد أو ترهيب أو وعيد.
والإسلامي المتزمّت، الذي جنح نحو الاعتدال، وصار يقبل بالديمقراطية والدولة المدنيّة، ويقبل النقاش حول العلمانيّة أو يتحفّظ عليها، هو أيضا ارتدّ عن هذا الاعتدال، وصار ضالعاً في مفاقمة الاستبداد الفكري، ذي المنحي الديني والطائفي، إلى درجة الغلو والتوحّش، الذي أنتج “داعش” و”النصرة” وما وافقهما أو لف لفيفهما.
وكشف حجم الردّة هذه، كميّة الزعم والادعاء في تبني قيم الاعتدال والليبراليّة والتشاركيّة الوطنيّة، إلى جانب فضحها مدى هشاشة الوعي الوطني، ورخاوة الإيمان بقيم الاعتدال والمواطنة الحرّة والحقّة، والنظر إلى الشريك المختلف، نظرة شكّ وارتياب وقلق وخوف، باعتباره مشروع “عدو” أو “انفصالي” أو “متواطئ”…، ينبغي مسايرته، والتحوّط والاحتراز منه!
اليساريون المطالبون بالتغيير، تخندقوا مع النظم الاستبدادية التي عارضوها، بحجة أن الآتي أعظم، وبحجّة أن الإسلاميين سيكونون البديل. وعليه، تحوّل اليساريون إلى يمنيين، محافظين، مناهضين للتغيير، الذي سيأتي بالخصوم الأيديولوجيين للسلطة.
والقوميون العلمانيون، ونتيجة موقف العلمانيين اليساريين المناهض للثورة، هم أيضاً انزلقوا نحو التطرّف الديني، بوصفه الرافعة الاستراتيجيّة للثورة على النظم الاستبداديّة. وصاروا يمنيين أكثر من السابق. بمعنى، تداخلت المفاهيم وانزلقت عن معانيها التقليديّة المتعارف عليها.
أيّاً يكن من أمر، فإن ما تعيشه سوريا الآن، هي حالة طارئة وعارضة، ستزول، مهما طالت سنوات الخراب والحرب والدم و”الهوس الأيديولوجي” حسب تعبير تيزيني. وربما ينطبق القول الشعبي الدارج على ما يجري في سوريا، والذي يفيد أنه “لن تعمر إلاّ بعد خراب”.
كاتب كردي سوري