القصر الرئاسي نعيم قرطاجي يغوي الرؤساء في انتظار ساكن جديد

تونس- تستسلم لالتواءات الطريق المعبدة في هضبة سيدي بوسعيد التونسية، قرب العاصمة، وتنساب لزرقة البحر المتوسط الصافية التي تبعث فيك الحياة فتحملك في هدوء تام إلى مكان يسحر ويبهر كل من جال فيه، ولطالما أثار فضول الكثيرين بأنّ تطأ أقدامهم أجنحته.. إنّه قصر الرئاسة بـمنطقة قرطاج الأثرية، حيث ينعم ساكنه بجو خاص يمزج بين رهافة حس الطبيعة وعصارة إبداع الإنسان. قصر ينتظر اليوم ساكنه الجديد الذي ستكشف عنه نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة.
عرفت تونس منذ استقلالها عن فرنسا في 20 مارس سنة 1956، إلى حد الآن وصول 5 رؤساء إلى سدة الحكم منهم من دام حكمه عقودا على غرار الحبيب بورقيبة الذي حكم البلاد لمدة 30 عاما وزين العابدين بن علي الذي استمر على رأس الدولة لـ23 سنة ومنهم من حكم ليوم واحد فقط.
ساكن قرطاج الأول ومؤسسه
ساكن قرطاج الأول هو الرئيس الحبيب بورقيبة، (3 أغسطس 1903 – 6 أبريل 2000). الذي تم تنصبيه أول رئيس للجمهورية التونسية الناشئة، في الـ25 من يوليو 1957، بعد أن أعلن إلغاء الملكية وعزل آخر بايات تونس محمد الأمين باي. ودام حكم الرئيس الراحل الحبيب بوروقيبة إلى غاية الـ7 من نوفمبر 1987 تاريخ عزله عن الحكم إثر انقلاب قاده زين العابدين بن علي.
شرع الرئيس الأسبق الراحل الحبيب بورقيبة إبان وصوله إلى الحكم، في القيام بإصلاحات داخل المجتمع التونسي، وهي إصلاحات لا يزال التونسيون إلى اليوم يستحضرونها ويدينون لها بالفضل في تطور مجتمعهم، بل إن البورقيبية أضحت نهجا وشعار حياة عند أغلب التونسيين. الأمر الذي يجعل من الباجي قائد السبسي، زعيم حزب نداء تونس الفائز بالانتخابات التشريعية الأخيرة، الذي عاصر بورقيبة وتولى عدة حقائب وزارية ودبلوماسية في عهده، أبرز المرشّحين للفوز في الرئاسيات القادمة وأوفرهم حظّا.
هناك من القاعات والصالونات من كانت شاهدة على العصر وعلى قرارات هامة غيرت مجرى الأحداث الكبرى التي شهدتها تونس
ومن أبرز الإصلاحات التي قام بها بورقيبة، في تونس التي كانت حديثة العهد بالاستقلال حينها؛ تعميم التعليم والصحّة وإصدار مجلّة الأحوال الشخصية يوم 13 أغسطس 1956 لمنح مزيد من الحقوق للمرأة. وقد شهدت فترة حكمه عديد التجارب الاقتصادية كالتجربة “التعاضدية” (الاشتراكية) في ستينات القرن الماضي والتجربة الليبرالية في السبعينات.
كما عرفت فترة حكمه في الوقت ذاته هزّات مختلفة كمحاولة الانقلاب عليه سنة 1962 بقيادة الأزهر الشرايطي وجماعته، والصدام مع الاتحاد العام التونسي للشغل في 26 يناير 1978 و”ثورة الخبز” في يناير 1984.
ولكن رغم كل تلك الإيجابيات فقد اتسمت فترة الحكم البورقيبي بالحكم الأحادي ورفض التعدّديّة السياسية حتى أنه أعلن أنه أصبح رئيسا مدى الحياة سنة 1975، لينهي الصراع الذي بدأ يحتدم حينها حول خلافته، وفق متابعين.
|
بن علي وعد فأخلف فأسقط حكمه
من ثمة جاء الرئيس التونسي الثاني، زين العابدين بن علي، الذي وصل إلى الحكم في الـ7 من نوفمبر سنة 1987، إثر انقلاب قاده على الحبيب بورقيبة.
بشّر الجنرال السابق زين العابدين بن علي (الذي كان الوزير الأول في حكومة بورقيبة قبل الانقلاب) يوم توليه السلطة بمزيد من الحريات والديمقراطية ولكنه بدأ يحيد عن تلك الوعود. و”انتخب” بن علي لخمس ولايات متتالية في 1989 و1994 و1999 و2004 و2009، وكانت كلها انتخابات تفتقد إلى شروط الديمقراطية والنزاهة، كما أجمعت على ذلك شهادات جهات حقوقية داخلية وخارجية. وانتهى المطاف بزين العابدين بن علي هاربا من قصر قرطاج إلى المملكة العربية السعودية، إثر الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في نهاية 2010 ووصلت أوجها يوم 14 يناير 2011، تاريخ سقوط نظامه على يد الشعب التونسي.
مناورة الغنوشي وشغور منصب الرئيس
أحدث فرار زين العابدين بن علي، فراغا في منصب الرئاسة مما أدى بالوزير الأول محمد الغنوشي آنذاك إلى تولي هذه المهمة استنادا على الفصل 56 من الدستور التونسي، الذي ينص على أن لرئيس الدولة أن يفوض الوزير الأول في حال عدم تمكنه من القيام بمهامه وقتيا، ويبقى في هذه الحالة محتفظا بمنصبه.
لكن الشعب التونسي، كان في أوج ثورته، ولم يكن مستعدّا لتقديم أيّ تنازلات أو يمنح المجال لأي إمكانية لعودة زين العابدين بن علي، واعتبر في تولي الغنوشي رئاسة البلاد مؤقّتا مراوغة لمنح الوقت للنظام المعزول من قبل الشعب الذي كان في أوج غضبه وثورته. ولم يكن هناك من فرصة أمام الغنوشي إلا الاستقالة بعد أقل من 24 ساعة من توليه الرئاسة. وأمام الضغط الشعبي، أعلن المجلس الدستوري أنّه بعد الاطلاع على الوثائق، لم يكن هناك تفويض رسمي واضح يمكن الارتكاز عليه بتفويض الوزير الأول، كما أنّ الرئيس لم يستقل رسميا من منصبه، وبما أنّ مغادرته حصلت في ظروف معروفة وبعد إعلان الطوارئ، وبما أنّه لا يستطيع القيام بما تفرضه عليه مهامه، ما يعني الوصول إلى حالة العجز النهائي، فعليه تقرّر اللجوء إلى الفصل الـ57 من الدستور وإعلان شغور منصب الرئيس، وبناء على ذلك أعلن في يوم السبت 15 يناير 2011، أنّ رئيس مجلس النواب حينها محمد فؤاد المبزع، أضحى الرئيس التونسي الرابع، ودامت ولايته لمدّة قاربت السنة.
ولاية المرزوقي "السوداء"
بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في الـ23 من أكتوبر 2011، فتحت أبواب قصر الرئاسة بقرطاج أمام محمد المنصف المرزوقي، الّذي انتخبه المجلس التأسيسي رئيسا لتونس يوم 13 ديسمبر 2011. وقد شاب فترة حكمه الكثير من الجدل والانتقادات، بسبب انحدار البلاد نحو الفوضى والإرهاب والوهن الاقتصادي والاجتماعي.
وقد اعترف المرزوقي في تصريحات إعلامية سابقة، بارتكابه لأخطاء خلال فترة حكمه منها تعيينه مستشارين لم يكونوا في المستوى، وثانيها ثقته في سياسيين لا يستحقون الثقة، فضلا عن عدم تقديره عند توليه الرئاسة حجم الصعوبات التي تعانيها البلاد.
غير أنّ “اعترافات” المرزوقي هذه لم تخفف حنق شريحة واسعة من التونسيين تجاهه، حسب مراقبين، لأنّه لم يذكر أهم الأسباب التي تتعلق أساسا بتحالفه مع حركة النهضة الإسلامية من موقع ضعيف وطاعته العمياء لها، من أجل محافظته على كرسيّ الرئاسية لا غير، هذا بالإضافة إلى تعمده الانحياز إلى فئة من الشعب دون أخرى و”كتابه الأسود” الذي اتهم فيه إعلاميين وفنانين ومثقفين تونسيين بالفساد، ممّا وسم فترة حكمه بأنها “فترة سوداء”، وفق تعبيرهم.
ويخوض المرزوقي اليوم انتخابات الرئاسة، على أمل البقاء في قصر قرطاج، رغم أن تصرّفاته أثارت جدلا واسعا في تونس وكانت محلّ تهكّم وسخرية التونسيين، الذين سيختارون يوم 23 نوفمبر 2014، ساكن قرطاج الجديد، في أول اقتراع رئاسي مباشر للشعب بعد الثورة.
|
قصر قرطاج من الغموض إلى العلن
في انتظار ساكنه السادس، يقبع قصر قرطاج ويمد أجنحته على ضفاف المتوسط، وقد تجرّد من جزء كبير من غموضه. فقبل ثورة 14 يناير 2011، أحاط الغموض بهذا المكان، الذي لم يكن يسمح للتونسيين بالاقتراب منه أو المرور من أمامه، كما لم يكن أغلب التونسيين يعرفون عن القصر غير بعض الصور التي ينقلها الإعلام، والتي اقتصرت في الغالب على القاعة التي يستقبل فيها الرئيس زوّراه أو مكتبه الشهير.
بعد الثورة التونسية، أصبح القصر يستضيف الندوات الصحفية لرئاسة الجمهورية، وأيضا تعقد فيه الندوات والمؤتمرات، كما تم تسجيل بعض البرامج التلفزيونية التي تحدّثت عن القصر من خلال جولات استكشافية داخله.
يتكون القصر من 4 أجزاء، جناح يخصص للقصر وأجنحته وآخر لمنزل الرئيس وثالث لأمن القصر ورابع بالقرب منه هو مقر إقامة السفير السويسري ويمتد على حوالي 40 هكتارا (400 ألف متر مربع). وتتحدّث نائلة محجوب، القائمة العامة بالقصر عن تاريخ المكان قائلة: “القصر كان أصلا مقرا للمقيم العام الفرنسي ثم قرر الرئيس بورقيبة أن يجعل منه قصرا للرئاسة وبدأت أعمال البناء والتوسعة سنة 1959 حيث استعان بالمهندس المعماري اليهودي التونسي الفرنسي، أوليفييه كليمون كاكوب، وانتهت عملية البناء سنة 1970 بصفة كلية بعد أن بدأ استغلال الجزء الجاهز منه منذ 1964”.
"النعيم القرطاجي"
حين تلج القصر من الناحية المطلة مباشرة على البحر، تبدأ مظاهر الفخامة تطل شيئا فشيئا مع الزرابي (السجاجيد) التونسية التي تكسو البلاط والأخرى إيرانية الصنع التي تغطي الجدران وتحتار خطاك أي الأروقة تختار.
|
تُعدّدُ القائمة بأعمال القصر الفضاءات الرسمية التي خبرتها عن ظهر قلب منذ سنين وتوضح قائلة: “يدخل الضيف الرسمي أولا، من الباب الرئيسي ويسمى بهو الرؤساء ثم يستقبله البروتوكول في قاعة الوزراء أو قاعة الاستقبال ويوجهه إلى القاعة التي تم تخصيصها له حيث أن كل شخصية رسمية إن كانت رئيس دولة أو وزيرا أو غيره، كل له المكان والقاعة التي تليق بمقامه وطبيعة النشاط الذي سيجمعها بالرئيس التونسي”.