الكولومبي فرناندو بوتيرو وكائناته المؤسطرة

وجوه ممتلئة بملامح دقيقة، أيدٍ وأرجل كأطراف الدمى قصيرة، أجسادٌ ذات طيّات متراكمة، أرداف مكتنزة، حيوانات مبالغ في سمنتها، فاكهة، كتب، أسرَّة، أزهار، أسلحة وأدوات موسيقية، نراها في أعمال الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو بأحجام متضاعفة وأبعاد غير متناسبة ليكون للحجم كلمته الأولى والأخيرة في جميع أعماله.
من كولومبيا جاءنا هذا الفنان ذو الثمانين عاما، من مدينة الشعر والعنف أيضا “مديين”. ولدت أعماله أيضا من رحم تلك البيئة اللاتينية الخصبة التي تنبع منها الخرافات والأساطير، مصدر الواقعية السحرية التي بهرت العالم أعمال رائديها كماركيز وغيرهم.. تنضج أعمال بوتيرو في الخيال الدافئ لأميركا اللاتينية، في الغابات وتدرجات الأخضر فيها، نرى فيها البرجوازيين المتزمتين، الرجال العنيفين، الفرق الموسيقيّة، الدين الجديد المختلط بالوثنيات القديمة. الصور العائلية التي تبدو فيها النساء من مختلف الأعمار جالسات ووراءهن صور لأيقونات دينية كجزء من عادات الناس المفروضة هناك.
بدأت مسيرة بوتيرو في الرسم مذ كان في السادسة عشرة من عمره، متنقلا بين إيطاليا وفرنسا وأسبانيا وغيرها كي يتعلم تلك الحرفة لكن أعماله بدأت تكوّن ملامحها الخاصة عام 1956 عندما كان في زيارة إلى المكسيك وكان حينها يرسم مندولا (آلة موسيقية) في إحدى حدائقها عندما أدرك التضخم السكاني الهائل في تلك البلد فطرأت على ذهنه فكرة الضخامة وشرع في رسم ذلك البندول بحجم مضاعف. ثم توالت نجاحاته لتتسابق المعارض على احتضان أعماله فيقيم منها الكثير في أوروبا والأميركيتين ويباع قسم آخر منها بأسعار خيالية، لكنه يهدي بلدته عددا من تلك الأعمال وكأنه يردّ لها بعض فضائلها.
البطولة للحجم
ولا تقتصر تلك الحالة الضخمة على لوحاته بل تتجاوز ذلك إلى منحوتاته التي تمثل البشر والحيوانات على حدّ سواء والتي بدأها عام 1973، وهو نفس العام الذي انتقل فيه إلى باريس. لتنتشر أعماله بشكل عالمي بعد تلك الزيارة.
|
تراجيكوميديا
في حين اكتسبت أعماله بعدا دراميا في تصويره للعنف واللاإنسانية التي كان بوتيرو نفسه أحد ضحاياها عندما اختطف من منزله في كولومبيا على يد إحدى العصابات؛ فساعة الحائط المعلقة التي تشير إلى الساعة القاتلة، الجثث المذبوحة، طاولات الحانات المبعثرة، القمصان الملطخة بالدماء، المجزرة الدموية التي تبدأ بشهية الدم وتنتهي بشهية اللحم، النساء نصف العاريات في الحانة، الموسيقيّ الذي يُسلّي عربدة السُّلطة في السرير، النوم مع سيجار في اليد. كلها مشاهد درامية يضعها بوتيرو أمام أعيننا مصورا لنا بشاعة العنف الحاصل في كولومبيا ومبتعدا عن النكهة الفكاهية التي اعتدنا عليها في أعماله الأخرى.
أما موقفه الأكثر إنسانية فهو عرضه لأكثر من سبعين عملا يتحدث عن التعذيب الذي لاقاه الأسرى العراقيون في سجن أبو غريب؛ ما يمثل انتقادا مباشرا للإمبريالية الأميركية ولأساليبها الدموية. لقد رفضت كثير من المعارض الأميركية عرضها حتى وافق أحد غاليريات مانهاتن على ذلك فقام بعرضها في الهواء الطلق لتمثل صدمة للمجتمع الأميركي الذي يعتقد في إنسانية نظامه.
وفي تلك الأعمال لم يتخلّ بوتيرو عن أسلوبه في التضخيم، ربما أراد أن يقول لنا إن القضية ليست بتلك البساطة وأنه لا يهوّل الأحداث بل هي خطيرة بالفعل.