الناقد الغارق في آلته

ثمّة قسمةٌ ضيزى يردّدُها البعض عندما يجري تناوُل نصٍّ ما نقديّا لجهة الكاتب في كونه يصدر عن تجربة نقديّة فيحوز لقب "الناقد" الذي تُعطَى أحكامُهُ الصلابةَ والوثوقيّة وبالتالي القبول.
من أسباب هذه القسمة التشطيرية إيلاءُ المعرفةِ النقديّة المكانةَ الأولى إنْ لم تكن الوحيدة لتسويغ الاتصال بالأثر المنقود وتلمّس عوالمه الجمالية وسبر خفاياه التي تمتنع عن النظرة الأولى المتعجّلة، فيما تلك العوالم والخفايا تحتاج إلى إنعام نظرٍ وحُسْنِ إصغاء لتجليتها أمام القارئ.
ولن يتأتّى ذلك النفاذ إلا بآلةٍ معرفيّةٍ دقيقة وبمراسٍ طويل ودُرْبةٍ هائلة في شعاب النظريات والمناهج؛ الوافد منها والموروث، على نحوٍ يمهّد الطريق ويفتح السطح للعبور إلى مكامن النص ومعانيه المكنوزة في الأعماق.
وعلى وجاهة هذا "التبرير" إلا أنه يظلّ خارجيّا وسطحيّا وملامسةً من بعيد. فالوقائع القرائيّة ترسم مساحاتٍ متداخلةً وحدوداً مختلطة. رأينا نقّاداً مبدعين يقاربون النصوص الشعريّة والسرديّة بإبداعٍ مكافئٍ وموازٍ، ونقّاداً آخرين تقصر كتاباتهم عن تقصّي شرارةَ الإبداع في تلك الأعمال والإحاطة بمواطن الجمال فيه. وفي الوقت نفسه، ثمّة مبدعون نقّادٌ يضعون أيديهم وأيدي القراء معاً على جمرة النص والتقاط التجربة الجماليّة والإنسانيّة في تناولٍ ربّما عزّ نظيره عند النقاد.
ذلك أن المسألة ليست متوقفة عند "الآلة المعرفيّة" وحدَها التي تصبح في بعض الأحيان عازلاً بين النقد وبين النص، حين تتحوّل هذه "الآلة" غايةً في ذاتها وليست وسيلة؛ آلة استعراضية ورطانة غريبة تدور حول مفرداتها ومصطلحاتها دون أن تقول شيئا ذا بال عن العمل.
تصبح الكتابة النقديّة هنا مستغرقة في مرآتها؛ غريقةً في نرجسيّتها لا تقارب النص الإبداعي إلا على سبيل المباهاة بما تملكه من عدّة معرفيّة تجعل من صاحبها في أحوالٍ كثيرة ديكتاتورا يريد أن يُنطِق العمل بما يريد لا بما ينطوي عليه ولا بما تفرضه سياقاته؛ الجماليّة والاجتماعيّة والثقافيّة.
الفرق بين الناقد الغارق في آلته، والناقد المبدع أن هذا الأخير يستعمل آلته، ولا يدعُها تستعملُهُ. لا يتوقّف عندها يجذب الأنظار إليها ويتشاوف على المبدع وعلى قرائه أيضا.
لا تنتظرُ الدهشةَ وتحذر من مباغتات النص. الناقد المبدع يبني قراءته خطوةً خطوة، يدلف إلى مجهول الكتابة الإبداعيّة بحواسَّ مصقولة في غاية الانتباه، تلتقط الإشارات ويمضي إثرها ليوافي مكتشفاته مثل لُقَىً تبزغ تحت قلمه، تطفر ريّانةً ملتمعة تأخذُهُ إلى حضن الدهشة وكنف المفاجأة وحِجْر الرائع اللامتوقّع.. شأنه شأن الصياد الذي يرمي سنّارته في مجهول البحر على انتظار الوعد الغائم، كما ينصح المخرج السينمائي روبير بريسون في مدوناته حول السينماتوغراف: "كن جاهلاً بما ستلتقطُهُ بقدر ما يكونُهُ صيّادٌ عند طرف قصبته (السمكة التي تبرز من لا مكان)".
وأحسب أن المبدع الناقد لا يختلف في هذا الشأن عن الناقد المبدع في تجربة القراءة والإبحار بين سطور الكتابة الإبداعية. المبدع بما يتوفّر عليه من ذخيرة جماليّة وخبرة إبداعية، وبما ينطوي عليه من موهبةٍ أنضجتْها سنواتُ القراءة النوعيّة والتفتّح على جهات الجمال بحصيلةِ ذائقةٍ مرهفةٍ؛ تعرف كيف تُدار البوصلة.. يستطيع هذا المبدع النفاذَ إلى أرض الأسرار واكتناه مجاهلها، والعودة بنصٍّ نقدي لا يقلّ في أثره عن النص الإبداعي.
إن النقدَ يبلغُ مرتبةَ الإبداع ومعانقةَ ضفافة، بغضّ النظر عن صفة الكاتب فيما إذا كان ناقداً أو مبدعا، عندما يتحوّل إلى رحلة اكتشاف مصحوبةً بأدواتها الخلاقة التي لا تفتن ولا تلهي. تسند مصباحَ العمل وتشحذ حضورَ الكاتب وتشحنه بطاقةٍ عاليةِ التنبّه والإصغاء لما يعتمل في أعماق النص ويحتدم من إشاراتٍ وأسئلةٍ تضطربُ في الخفاء وتريدُ الإعلانَ عن وجودٍ لا يتبدّى إلا بصيغةٍ مكافئةٍ هي الإبداعُ نفسُه.