دستور مصر الجديد.. الجيش يحافظ على مكتسباته

القاهرة - بعد جدل وخلافات وانتقادات، حسمت لجنة الخمسين، المعنيّة بتعديل دستور مصر الجديد، الأمر، وأعلنت الانتهاء من إقرار جميع المواد الدستورية، في خطوة مهمة نحو تنفيذ "خارطة المستقبل" التي أعلنها الجيش في يوليو-تموز.
في 22 نوفمبر، أصدر الرئيس المصري المعزول، محمد مرسي، إعلانا دستوريا عزز بموجبه صلاحياته ووسع من سلطاته. لكن، هذا الإعلان لم يحصّن الرئيس السابق وإخوانه، كما كان منتظرا، بل كان سببا في سقوط نظامهم، بعد عام واحد من تسلّمهم السلطة. فقد أثار الإعلان الدستوري "الإخواني"، سخط وتنديد الكثير من الليبراليين والأقباط والحقوقيين ومختلف أطياف الشارع المصري المصريين الذي عاد للتظاهر بالميادين. ومثلما أطاحوا بنظام مبارك، الذي حكمهم لثلاثين عاما، أطاح المصريون بنظام مرسي الذي حكمهم سنة واحدة يتيمة من الإنجازات، خرج منها الرئيس السابق وهو يحمل صحيفة ملطّخة بالاتهامات له ولجماعته.
سقوط محمد مرسي، ومن وراءه تنظيم الإخوان، المدعوم دوليا، من قطر وأميركا وتركيا، لم يكن هيّنا، فحكم مصر، الدولة المنشأ لتنظيم الإخوان المسلمين، هو حلم عمره ثمانون سنة، ولولا ثورات ما يعرف بـ"الربيع العربي" لما تحقّق هذا الحلم الذي سرعان ما حوّله الإخوان أنفسهم إلى كابوس.
مشروع تجريبي
كانت أول سنة تحت حكم مرسي لمصر أكبر مشروع تجريبي روّجت له أيديولوجيا الإسلام السياسي، التي رفعت شعار "الإسلام هو الحل" لكل أزمات المجتمعات العربية، لكن سرعان ما تحطمت أسطورة الإسلام السياسي وانكشف فشل الإخوان بعد عام واحد من وصولهم إلى السلطة.
طوال هذه السنة، لم يشعر المصريون بأي تحسن يذكر في الخدمات الأولية التي تقدمها له الدولة، بل على العكس تدهورت أحوالهم الاقتصادية، وفقد الكثير منهم أعماله نتيجة هروب رأس المال الوطني والأجنبي إلى الخارج، وأحكمت الأزمات المتتالية – كهرباء وغاز وسولار وخبز وحوادث قطارات وطرق – الخناق عليه، الأمر الذي جعله يفقد الأمل في الرئيس الذي أعطى من الوعود الكثير أثناء حملته الانتخابية لكنه لم ينفذ منها إلا النزر القليل، وبدأ في إهدار الوقت في معارك ومناوشات جانبية تارة مع مؤسسة القضاء والمحكمة الدستورية العليا وتارة مع قوى المعارضة المدنية التي تأخذ عليه توجهاته الدينية وموالاته لجماعة الإخوان المسلمين التي أتى منها على حساب أطياف الشعب المصري الأخرى. وخاض مرسي حربا ضروسا لتمرير دستور مشكوك في مصداقيته بعد انسحاب كل أطياف المعارضة، إضافة إلى الأقباط من لجنته التأسيسية وإجراء استفتاء عليه دون إشراف قضائي كامل بعد مقاطعة 90 بالمئة من قضاة مصر.
|
انقلب المصريون على الرئيس محمد مرسي، وأعلنوا العصيان وخرجوا في مظاهرات دامية استوجبت تدخّل الجيش المصري، ليحسم الأمر في الثالث من تموز- يوليو الماضي، ويعلن القائد العام للقوات المسلحة، الفريق أول عبد الفتاح السيسي، خارطة طريق للانتقال السياسي تعد بإجراء انتخابات جديدة. وتشمل خارطة الطريق تعديل الدستور الذي وضعته لجنة يهيمن عليها الإسلاميون.
وكانت لحظة عزل محمد مرسي لحظة فارقة في وعي الشعب المصري، مثلها مثل لحظة تنحي حسني مبارك، انفتح على إثرها باب الآمال على مصراعيه ولاحت في الأفق بشائر دولة عصرية متقدمة مدنية حرة شابة يحملها الشباب المصري (64 بالمئة من عدد السكان) على أكتافه.
ودخلت مصر مرحلة جديدة شهدت خلالها أحداثا دامية واضطرابات كثرة، بسبب رفض الإخوان المشاركة في العملية الانتقالية، وانتهجوا طريق العنف في مواجهة ما اعتبروه "حملة ضدّ شرعيتهم" التي منحها لهم صندوق الانتخابات، رافضين الاعتراف بأن نفس المصريين الذين منحوهم هذه "الشرعية الديمقراطية" هم أنفسهم الذين خرجوا إلى الشوارع ليخلعوا عنهم هذه "الشرعية الديمقراطية" بعد أن تبيّنت لهم حقيقة المشروع الإخواني.
مسودّة الدستور
موضوع الدستور الجديد، كان أساس، دخول مصر المرحلة الانتقالية الجديدة، وهي الثالثة منذ سقوط نظام مبارك في 25 يناير 2011. لم يكن من السهلعلى لجنة الخمسين، التي ترأسها عمرو موسى، مراجعة الدستور الذي وضعه الإخوان في 2012، وتعديل بنوده بما يتوافق وخصوصية الشعب المصري، بكل طوائفه، وبما يناسب تطلّعاته.
بعد أخذ وردّ، أعلن رئيس لجنة الخمسين، عمرو موسى، أنه تم التوافق على مسودة الدستور المصري. ويعد هذا تحولا كبيرا في خارطة الطريق السياسية التي أعلنها الجيش والتي نصت على أن تجرى الانتخابات البرلمانية أولا. لكن تنص المسودة على ضرورة إجراء الانتخابات في موعد لا يتجاوز ستة أشهر من تاريخ التصديق عليه مما يفتح الطريق أمام إجراء الانتخابات الرئاسية قبل انتخابات مجلس النواب. ولم تحدّد أي الانتخابات ستجرى أولا، الرئاسية أو البرلمانية.
جدل وخلاف
تألفت لجنة تعديل الدستور، التي بدأت عملها في الثامن من أيلول-سبتمبر الماضي، من خمسين عضوا، حضر عملية التصويت 48 عضوا، فيما لم تمثل جماعة الإخوان المسلمين، التي ينتمي إليها مرسي، في اللجنة، إذ تقاطع العملية السياسية التي أعقبت قيام الجيش بعزله.
بعد أن يطّلع الرئيس المؤقت على مسوّدة الدستور، سيقيّمها المصريون من خلال عملية استفتاء؛ فبموجب خارطة الطريق، يتعيّن أن يدعو الرئيس المؤقت الشعب إلى الاستفتاء على مشروع الدستور خلال شهر على الأكثر بعد تسلمه نسخة المسودة من اللجنة.
يبلغ عدد مواد الدستور المصري 247 مادة، منها 42 مادة مستحدثة، و18 في باب الحريات و45 تتحدث عن العمال والفلاحين. ولم تلاق هذه المواد موافقة كل الفرقاء السياسيين في مصر، حيث لاقى عدد من المواد معارضة بعض القوى، خاصة تلك التي تم مناقشتها وإقرارها رغم الخلافات التي لم تحسم بعد.
من بين هذه المواد، مواد "التمييز الإيجابي"، التي أضافتها لجنة الخمسين، والتي تنص على التمييز الإيجابي لكل من المرأة والأقباط والشباب دون تحديد نسبة محددة له في البرلمان المقبل. إضافة إلى وضع المادة المستقلة للعمال والفلاحين والتي تنص على أن تكفل الدولة تمثيلا مناسبا للعمال والفلاحين في أول برلمان منتخب. وهو ما رفضه بعض القوى السياسية باعتبار أن وجود مثل هذه المواد دون تحديد النسب لهذه الفئات يعدّ بمثابة "كارثة" تهدد الحياة السياسية في الفترة القادمة.
هذا بالإضافة إلى المادة الخاصة بحظر الأحزاب على أساس ديني التي أثارت غضب التيار الإسلامي السياسي، خاصة حزب النور السلفي المشارك في عمل لجنة الخمسين.
ويؤكد أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، مصطفى كامل السيد، أن مشروع الدستور الجديد، وخاصة النص المتعلق بمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، في بعض الحالات "يخالف كل الأعراف الديمقراطية".
ولكنه يشدد على أن القوى الليبرالية اضطرت إلى القبول به في ظل توازنات القوى الحالية "على أمل أن تتمكن من تغييره مستقبلا". في هذا السياق أكد علي السلمي، نائب رئيس حزب الجبهة الديمقراطية، أن إصدار مواد التمييز بالدستور خاصة مادة "الكوتة" أو ما يسمى بـ"التمييز الإيجابي" تتنافى مع المبادئ الدستورية لوضع القانون الذي يساوي بين المصريين في الحقوق والوجبات، وبالتالي لا يجوز التمييز في ما بينهم على أساس اللون والنوع أو العرق. وهذا من شأنه إقامة برلمان على أساس غير ديمقراطي لا يتلاءم مع ثورتي 25 يناير 2011 و30يونيو 2013.
ذات الرأي، يذهب إليه المفكر القبطي جمال أسعد، معتبرا أن نظام الكوتة الحالي يتعارض مع مدنية الدولة التي يدعو إليها الجميع مسلمين وأقباطا معا.
وأكّد أن الأقباط سبق لهم وطالبوا من قبل بها في الفترة الماضية للحصول على الفرصة الحقيقية في المشاركة المجتمعية والسياسة أسوة بالمسلمين.
لكن الأوضاع الحالية تعد مساوية ومتكافئة للجميع وبالتالي لا توجد أهمية في تطبيق الكوتة القائمة على التمييز على أساس الدين.
في حين أشار حسين عبد الرازق، القيادي بحزب التجمع اليساري، إلى أن نصوص المواد الدستورية الحالية خاصة مادة "التمييز الإيجابي" للمرأة والأقباط والعمال والفلاحين والشباب وغيرهم من الفئات المهمشة في المجتمع من المقرر أن يتم وضعها في باب الأحكام الانتقالية ومناقشتها فور الانتهاء من إقرار جميع المواد الأساسية في الدستور الجديد، وبالتالي ليس هناك جدوى من حالة الجدل المثارة حولها في الوقت الراهن. وأكّد على توافق جميع الأعضاء على المواد التي تم إقراراها في الدستور حتى الآن من خلال عمليات التصويت داخل لجنة الخمسين. من جانبهم رفض أنصار جماعة الإخوان المسلمين المحظورة في مصر مسودة الدستور الجديد. وقالت جماعة الإخوان إن الدستور، الذي ووفق عليه في ظل حكم الرئيس المعزول محمد مرسي العام الماضي، لا يزال هو دستور البلاد الشرعي. واتهمت الجماعة من وصفتهم بـ"الانقلابيين" بمحاولة تشويه "دستور 2012".
امتيازات الجيش ودوره السياسي
يكرس مشروع الدستور المصري الجديد امتيازات يتمتع بها الجيش منذ قرابة ستة عقود بل ويضيف إليها ويضمن استمرار الدور المحوري في الحياة السياسية المصرية للمؤسسة العسكرية. وحافظ المشروع على إثنين من الامتيازات التي تمتع بهما الجيش منذ إطاحته بالنظام الملكي في العام 1952 وهما الإبقاء على موازنته المالية بعيدة عن رقابة البرلمان وحقه في محاكمة المدنيين في الجرائم التي يعتبر أنها تمسه.
|
ويعد البند المتعلق بإمكانية إحالة المدنيين إلى محاكم عسكرية الأكثر إثارة للجدل في مصر. وحصل هذا البند على تأييد 41 عضوا في اللجنة بينما عارضها ستة أعضاء وامتنع عضو واحد عن التصويت.
ويحتجّ النشطاء الشباب على هذه المادة التي ترفضها كذلك المنظمات الحقوقية باعتبارها تتناقض مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان ومع قاعدة محاكمة المواطنين أمام قاضيهم الطبيعي. إلا أن الجيش المصري أصر على أن تحديد بعض الحالات التي يحاكم فيها المدنيون أمام القضاء العسكري مستندا إلى اعتبارات تتعلق بـ"الأمن القومي".
ولكن مشروع الدستور الجديد يضيف لأول مرة امتيازا جديدا يتنقص بشدة من صلاحيات السلطة التنفيذية، إذ نص على ضرورة موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على تعيين وزير الدفاع خلال الدورتين الرئاسيتين المقبلتين.
ويعتقد المحللون أن مشروع الدستور الجديد هو تعبير عن توازنات القوى السياسية في مصر في اللحظة الراهنة ودليل على مركزية دور الجيش الذي عزل مرسي في تموز-يوليو 2013، ومن قبله دفع حسني مبارك إلى "التنحي" في شباط-فبراير 2011 حتى لو كان احتاج في المرتين إلى حركة شعبية تبرر تدخله.
ويقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، مصطفى كامل السيد، إن "عملية كتابة الدستور عملية سياسية ونتيجتها تتوقف على العلاقات القوية بين الجماعات التي شاركت فيها وهي القوات المسلحة والقوى الدينية ممثلة في الأزهر والكنيسة القبطية وحزب النور والقوى الليبرالية".
ويضيف "الذي خرج فائزا من كتابة الدستور هو القوات المسلحة التي لم تقدم أي تنازل بل حصلت على مكسب جديد يتمثل في حقها في اختيار وزير الدفاع، ما يقيد من سلطات الرئيس المنتخب".
ويذهب المحلل السياسي، حسن نافعة، أبعد قليلا، إذ يعتبر أن منح الجيش عمليا حق تعيين وزير الدفاع "يثير مخاوف" حقيقية على استقرار النظام السياسي خصوصا إذا قرر الفريق أول عبد الفتاح السيسي عدم الترشح للرئاسة.
ويعتقد نافعة أنه إذا جاء الرئيس من خارج الجيش "فكيف يمكن أن تكون العلاقة بينه وبين وزير الدفاع، خصوصا أن الأخير سيعتبر نفسه خارج النظام، وكيف ستكون العلاقة بينه وبين رئيس الوزراء".
ويضيف نافعة، وهو أستاذ للعلوم السياسية، أن "هذا الوضع سيؤدي إلى نظام سياسي بثلاث رؤوس .. الرئيس المنتخب ورئيس الوزراء الحائز على ثقة البرلمان ووزير الدفاع وهو ما يمكن أن يؤدي إلى حالة من عدم الثقة".
وبموجب مشروع الدستور فإن رئيس الجمهورية هو الذي يختار رئيس الوزراء ولكن هذا الأخير ينبغي أن يحصل على ثقة البرلمان ليتم تعيينه.
ويشير جيمس دورسي، وهو خبير في شؤون الشرق الأوسط في معهد راجاراتنام للدراسات الدولية في سنغافورة، إلى أن "الجيش نجح كذلك" من خلال مشروع الدستور في "الحفاظ على استقلاليته".
وأدخلت لجنة الخمسين تغييرا في اللحظات الأخيرة، مساء الأحد، على بند يتعلق بالجدول الزمني لخارطة الطريق التي كان الجيش وضعها للمرحلة الانتقالية بعد أن عزل مرسي.
وبمقتضي هذا التغيير المفاجئ ترك مشروع الدستور للرئيس المؤقت عدلي مهمة تحديد ما إذا كانت الانتخابات الرئاسية ستجرى قبل الانتخابات البرلمانية على عكس ما تقضي به خارطة الطريق.
ويجمع المحللون على أن هذه المادة تعني أن القرار المتعلق بتحديد موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ترك بذلك للرجل القوي في البلاد وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي.
ويرجح دورسي أن الأمور تسير في اتجاه إجراء الانتخابات الرئاسية أولا معتبرا أنه "إذا انتخب الرئيس أولا فإنه يستطيع التأثير على التوجه السياسي" للبلاد، "أما إذا انتخب البرلمان أولا فإنه هو الذي سيكون له التأثير".
وحتى الآن يبدو السيسي الأوفر حظا للفوز بالرئاسة المصرية إذا ما ترشح في الانتخابات إلا أنه لم يحسم الأمر على ما يبدو بعد. وفي مقابلة مع عدد من الصحفيين الكويتيين مؤخرا، سئل السيسي عما إذا كان سيترشح للرئاسة فاكتفى بالقول "لكل حادث حديث".