"ساحة جامع الفنا".. تاريخ فني مغربي لا يفنى

مراكش –تعيش “ساحة جامع الفنا” بمدينة مراكش المغربية ومنذ مئات السنين على وقع زمنها الخاص، صاخبة بأهازيج روادها من الفنانين الفلكلوريين، وغاصة بزوارها المتحلقين حول رواة الأحاجي ومروضي الأفاعي وأصحاب ألعاب الخفة الذين صنعوا منها ساحة فرجة ورواية للتاريخ.
ويصف مؤرخون مغاربة “الحَلقات الشعبية”، في “ساحة جامع الفنا”، بأنها “أكبر خشبة مسرح استعراضي عمومية في المغرب”، حيث يصوغ الممثلون حكاياتهم بطريقة عفوية، ويجسّدونها بشكل هزلي، ويقبل عليها الجمهور بتلقائية، فــ”الحْلاَيْقي” (نسبة إلى الحلقة)، ينقل زوار حلقته إلى زمن القصة الخاص لينتهي الاستعراض، إن نال إعجاب الجمهور، بإلقاء قطع نقدية تشجيعًا لصاحب الحلقة ومكافأة له على عرضه. ولا يقتصر انتشار فن الحلقة على “ساحة جامع الفنا” بمدينة مراكش، بل إن ساحات تاريخية بمدن مغربية عريقة كانت مسرحًا لهذا الفن العفوي.
كما أن الحكاواتيين (نسبة إلى الحكي)، ومروضي الأفاعي ومحترفي التداوي بالأعشاب، كانوا يتجوّلون في أسواق القرى والأرياف، ويتنقلون بين القبائل، والمداشر (المناطق الصحراوية)، البعيدة بحثًا عن جمهور شغوف بهم، يُسَلونه وينزعون عن يومه رتابته وهمومه.
ويعتبر المؤرخون أن هؤلاء “الفنانين” ساهموا بشكل كبير في نقل الأخبار وأنباء الوقائع، والحوادث السياسية، والاجتماعية، بين المناطق البعيدة، وكان البعض منهم يختار رواية السيرة النبوية، وبعض القصص المستقاة من أمهات الكتب، فيستعيض حينها عن دوره الترفيهي، ليصير معلما يلقن جمهوره، ومريديه المعرفة والحكمة.
|
وفي “ساحة جامع الفنا”، ترجع الذاكرة بالمتجول إلى عادات وممارسات أسطورية تعود إلى الزمن الغابر، فعند مدخل الساحة يجلس فتى ممسكًا بـ”ناي” (آلة موسيقية)، متهالكًا، وينبري لمقارعة أفعى جسورة، تبادر إلى مهاجمته، مكشرة عن أنيابها، لكنه يواصل النفخ، فتتصاعد أصوات لحن خاص، تطاوعه الأفعى، مأخوذة بسحره، وتبدأ في أداء رقصة تتناغم وإيقاع الألحان.
وفي الجانب المقابل، تجلس فتاة وقد خلطت الحناء، وجهّزت عدتها، وعرضت نماذج للنقوش، التي تبرع في رسمها، على أيادي السائحات، والراغبات في تزيين أيديهن، بحناء مراكشية، تدعو من مرت بالقرب منها إلى تجريب حنائها.
وغير بعيد عنها، يضع أحد محترفي التداوي بالأعشاب كل ما اجتهد في جلبه من أعشاب وخلطات للتداوي “مما استعصى علاجه من أمراض”، ورغم تطور سبل العلاج، والتطبيب، إلا أنه ما يزال يحتفظ لنفسه بزبائن، يقصدونه متى ألم بهم مرض.
وبالإضافة إلى رواد فنون الحكاية والسيرك (مسرح يضم مجموعة من الفنانين الرحالة، بما فيهم البهلوانيون والمهرجون والحيوانات المدربة ولاعبو الأراجيح والموسيقيون والمطربون ومروضو الأفاعي) يظهر في “ساحة جامع الفنا”، عدد آخر من “مهن الهامش”، كبائعي الفوانيس، والسلال القصبية، والحقائب الجلدية، والمشروبات، والأطعمة التقليدية، اختار البعض امتهانها طلبا للرزق ولكسب قوت اليوم.
هناك انتقادات تستنكر جعل هذه الساحة العمومية “سوقًا مفتوحًا” لمزاولة المهن عشوائيًا دون احترام لخصوصيتها الثقافية، مما يؤثّر سلبًا على السمعة العالمية لـ”ساحة جامع الفنا”، ويجعلها عرضة للفوضى، بتحولها إلى حلبة يتسابق فيها “طالبو الرزق”، دون مراعاة لجماليتها، وطابعها التاريخي العريق، حسب مراقبين.
ومع التغيرات الحاصلة في أنماط المشاهدة لدى المواطن المغربي وأمام الفضاءات اللامتناهية التي أضحت تضمها السينما، والتلفزيون، للمشاهد لإشباع استهلاكه الثقافي، أضحى رواد “الحلقة” يقلون يومًا بعد يوم، وسط تصاعد الدعوات إلى إعادة هيكلة هذا الفن التراثي، ورد الاعتبار له، وصونه كجزء من الذاكرة الشعبية المغربية، التي تختزن تاريخ البلاد وتوثّق لماضيها.