عراقي تتبعه زرافة تتشمم قميصه.. ويسبقه ثور أشوري إلى مكتبة

صلاح فائق واحد من أكثر الشعراء العراقيين الأحياء حداثة في شعره، وأكثرهم تجديدا في الشعر، وإخلاصا له، شاعر صاحب نبرة خاصة، ورؤية خاصة، وصوت خاص، بنّاءُ علاقات تشكيلية في اللغة، ومدفّق موجات موسيقى عبر تشكيل بصري مدهش للكلمات. وعندما غرقت لغة الشعر وصوره في منظومة الكآبة والبلاغة اللغوية المفرطة، وادعاءات الحداثة، ذهبت قصيدته إلى منطقة الخفة والطرافة والبحث، فيما أهمل الشاعر عمله، في زوايا متجددة من صور الوجود البشري، بشيء من السوريالية التي تنهل من الواقع ومن لغة الفن البصري، ومن تاريخ الألم البشري، عبر مخيلة خصبة، وروح تطرد عن نفسها باللعب الفني كآبة العالم.
صلاح فائق ليس مجرد شاعر سوريالي من كركوك معتكف اليوم في الفلبين، كما قد يرى البعض،… إنه شاعر خلاق.
في واحدة من نصوص الانفعال اللحظي من جانب القراء وذواقة الشعر على ما ينشره الشاعر على صفحته الشخصية على الفيس بوك ما كتبه قحطان جاسم بعد قراءته قصيدة للشاعر.
يتساءل الذواقة قحطان جاسم: ما الذي يكتبه صلاح فائق وهو شاعر غني عن التعريف في قصيدته "غزالة تطارد برقا"؟ إنه يكتب بسريالية فائقة وعينه على تفاصيل الواقع الدامية والملطخة بكل ما هو ارضي معروف او غرائبي. يمزج الرمز بما هو اسطوري لكي يدلنا على ما هو يومي. وفي قصيدته الراهنة يواصل بحثه عمّا هو مفقود في الحياة التي يمكن تسميتها طبيعية. يفتتح هذا البحث باعلان عن الخسارة : هذا يوم سقيم" ..كأنه يطلب منا التوقف برهة للتبّصر في أحوالنا، فهذا الإعلان ليس بداية قصيدة، بمعنى انها ليست تهويما أو شيئا من تركيبات محضة للخيال. إنه الألم الإنساني، وهو يخوض محنته في عالم مشوش نعايشه في لحظة لها خصوصيتها. هذه اللحظة التي تختزن الراهن والأبدي، المكرور والزائل، وهو ألم مصاغ بتهكم سقراطي حين يغني دون أقنعة في حضرة مياه شلال ستذهب الى سجن ليس فيه أحد.! وهذا التحول من الحرية الى السجن ، الذي يقابله نقيضه الهروب "الى حقول كروم"، المعادل الممكن للحرية ، يظل ناقصا فهو هروب مع سجانين، كما أن حريتهم ليس لها أفق، وهم يهربون إلى فردوس فيكتشفون أن "رملا في أدمغتهم" . وبين مسافة الحرية واللاحرية تلك، حيث يصف التفاصيل الكونية بسخرية تشوبها المرارة ، يعود الشاعر ثانية لتذكيرنا بما يحسُّ ،انه "يوم سقيم" لكنه هذه المرة يكتشف نزول الاله "أنليل" ..إله الهواء ، مادة الحياة الجوهرية ، بهيئة البرق ..فيدعوه ان يكون رحيما بالمدينة والناس والحيوانات، ربما تعويضا عن تلك العزلة المحيقة بالشاعر التي تغرقه بإحساس من العدم حيث تغيب "الغزالة "، والمكان. إنها قصيدة، ككل شعر صلاح فائق، تجسد سعي الانسان إلى الحرية التي صارت تشبه البرق في وجود غامض تعيث فيه متناقضاتٌ يقصر عن بلوغ أبعادها كلها الإدراكُ.
هنا قصائد للشاعر تنشر للمرة الأولى خص بها "العرب" ومقالة عنه.
|
جريمة أمام بيتي
عزلتي تشتدّ في الليل
أختلقُ لها حكاياتٍ عن علماء يسكرونَ في أزقة
وعن حراسِ محمياتٍ يبيعونَ مغازل
إلى قروياتٍ مُهجَّرات.
حالتي أسوأ في الشتاء فأنا بلا طيفٍ
لأنهُ يهاجرُ لأشهر
ساحباً عربةً تغني فيها امرأتهُ العمياء.
وتحصلُ أمامي جريمة: رسامٌ يصرخُ على لوحته
يشتمُها ثم يمزقها. ماذا أفعلُ؟
أذهبُ إلى غرفتي،
أهاتفُ شرطة المدينةـ
لا أتحمّلُ جريمةً كهذهِ أمامَ بيتي.
غزالة تطارد برقا
هذا يومٌ سقيمٌ، يليقُ بسفراء
بنساءٍ بديناتٍ بلا ضفائر.
ليستْ هذه بداية قصيدةٍ لي أو لغيري
إنما هكذا أغني الآنَ وأنا تحت مياهِ شلالٍ
وهناكَ أشجارٌ تتطلعُ إليّ،
لذا لا أتعرى تماماً وأعرفُ هذه المياه تذهبُ إلى
سجنٍ ليسَ فيه أحدٌ ـ هربوا إلى حقولِ كرومٍ
مع سجّانينَ، بعضهم إلى فردوس ٍخلفَ تلك الهضبة
مرتدينَ معاطفَ خشنة إزراها أسنان ذئاب
هناكَ اكتشفوا رملاً في أدمغتهم، في صرخاتهم
وفي عطورٍ كانت هدايا من خليلات.
يوم سقيمٌ لأني أعُدُّ أضلاعي فأجدها ناقصة مرة أخرى
وقبل أن أغضبَ يمرُّ برقٌ أمامي يطاردُ غزالةً
فافتحُ لها بابي أنصحُها تختفي في السقيفة
ينزلُ البرقُ أمامي فإذا هو إنليل، إله الهواء
أدعوهُ لا يُطاردُ حيوانات هذه الجزيرة
وبقية البلدان أيضاً ويهتمّ بسكانِ بابل
يلوّحَ بمشعلٍ في الليلِ لسواقِ شاحنات
أو يشارك في مظاهرةٍ يقودها عميانٌ لإنقاذِ قروياتٍ
من إطراءٍ مبتذلٍ وأعرضُ عليهِ أن يمثّلَ في غرفتي
نصهُ الوحيد أو شيئاً عن كلكامش، بعيداً عن جمهورٍ وأضواء ـ
اللامرئي وحدهُ سيكونُ معي، لكنهُ لا يقبلُ عروضي
ويختفي. أعودُ إلى غرفتي، أصعدُ إلى السقيفةِ
لا أجدُ تلكَ الغزالة، ولا في مكان.
ظلمة تغطيني مثل لحاف فلاح
في الظلمةِ أجمعُ شظايا نافذتي
أخافُ على كلبي وعلى زوارٍ مملّلينَ من معبدٍ قريبٍ
لا يرغبُه أحد.
قرأت اليومَ، في صحيفةٍ، عن أبٍ شنقَ نفسهُ أمامَ أولاده
وكانوا يصفقون
لا ألومهم: أدخلُ شيخوختي أحياناً،
أسمع ُصرخاتٍ فأهربُ إلى حانةٍ،
تخدمني صاحبتها: أظنني رأيتُها في ملحمةِ كلكامش
ـ هل كنتِ صاحبة حانةٍ في ملحمةٍ سومرية؟
- نعم
أعودُ، ألتقي تلكَ الظلمة ونتحادثُ
تحيطني، تغطّيني مثل لحافِ فلاّح.
ممثلون يبكون أمام مسرح
أحياناً أكتبُ وأنا أنامُ
سفنٌ محطمةٌ في قاعِ بحر
علماء يصورونَ، يلفّونَ حولها
كأنهم هنودٌ حمرٌ يرقصونَ حول نيرانٍ
في فيلمٍ قديم،
أو كقراصنةٍ يغنونَ على سفحِ جبلٍ
أمامَ قفائرِ عسل ـ أحدهم يحرقُ قواربهم عند ساحل
هذا ما أرى.
أمدُّ يدي، أزيحُ مشهدهم
فيظهرُ مسرحٌ مقفلة أبوابهُ
قربها يبكي ممثلونَ
أسمعُ نحيبَ ممثلاتٍ من الداخل
فجأةً يظهرُ ثورٌ مجنحٌ
فوقهُ يقفُ طفلٌ، يخطبُ:
لا جدوى من البكاءِ والنحيب، افسحوا في المجال
يتقدمُ الثورُ، يحطّمُ باباً بعد باب
أفتحُ عينيّ، أسمعُ طائرةً مروحيةً تدورُ حول بيتي.
جنودٌ يطرقونَ بابي بشدة
- ماذا تريدونَ، أصرخ ُ
- اِفتحْ الباب، أين ثوركَ المجنّح؟
- لماذا، ماذا فعلَ ؟
- أتدّعي أنك لا تعرفُ؟
ثوركَ حطّمَ أبواب سجنينِ حتى الآن
في سيبو ومانيللا، رآك حراسٌ تقفُ فوقهُ وتحرضه
أهرعُ إلى البابِ أفتحهُ، لا أحد.
أنادي خادمي، أساله ُ:
- من كانَ يطرقُ الباب؟
ـ لم أرَ أحداً
- والطائرة المروحيّة، ألم تشاهدها وتسمعها أيضاً؟
ـ طائرةٌ مروحيّة؟ هنا؟
أحياناً أنامُ وأنا أكتب.
أغنية
نعم أميلُ إليكِ. لا أعرفُ لماذا.
لستِ مقدسةً أو متشحةً بضوء القمر
كنتُ أفضلكِ راهبة معبدٍ لأغريكِ
بصوتي وذكرياتي.
مثلي، تحبينَ البيت بلا أثاثٍ تقريباً
وتضحكينَ عندما أقرأ قصيدةً لي
في حضيرةِ ماشية.
- أخبرني عن تاريخك الشعري
- كتبتُ قصائدي الأولى في كهفٍ
قرأتُ بعضها على أشجارٍ
أخريات على أمواجٍ تهدرُ، فلم تسمعني جيداً
كما أظن.
انتهيتُ تلميذاً فاشلاً، لكني حققتُ ما أردتُ:
أن أضحكَ وأضحك
كما أنتِ الآن
- جميل. أحبُّ أن أجلسَ على ذلكَ الحصان
أرجوك ارفعني.
أحملها إلى اسطبلٍ
أقرصها هناكَ، أمسّدها، أعرّيها على حصانٍ أبيض
ألحسُها بلسانِ شاعرٍ وأتشممُها، مثل كلب، ثم أغنّي:
أعرفكِ تحبينَ رطبَ بلادي
يحسدني لصوصُ مزاراتٍ ومقابر،
حينَ يرونكِ معي
أقولُ لهم لستِ امراةً بلا نظير، لا يوافقون.
أريدُ أن نبتعدَ، أبعدَ فأبعد
إلى أرضِ فقماتٍ وأيائلَ وضباع
أميلُ إليكِ ولا أعرفُ السبب.
هوميروس وأخرى لي
أبوابٌ تُغوي مسافرينَ
أبراجٌ تنتظرُ اقترابهم
كي ترسلَ إشاراتٍ إلى ذلك الميناء
هل تتجسسُ الأبراجُ والمنائر أيضا؟
قرأتُ عن هذا المكان، مرّ جنودٌ بدروعٍ من هنا
بالوا على جدران المنائر، غنوا أكلوا وناموا لأيامٍ
فجأةً، في فجرٍ،هاجموا ـ تسلّقوا سفن أعدائهم
لم يجدوا فيها أحداً، فغضبوا
تقاتلوا في ما بينهم حتى المساء
ثم ألقوا أسلحتهم، مع جثثٍ وجرحى
إلى الأمواج واختفوا
في كتابتي المقبلة سأوضحُ كيفَ حصلتْ هذه القصة
وأين ذهبوا
الآنَ أنا أمامَ نصبٍ تذكاري
لقادة بلدي منذ مائة عام: أشتمهم
أسخرُ من أكاذيبهم ووعودهم، لا يستجيبونَ
أحدهم يحكّ عضوهُ، آخر يصرخُ على سائقِ سيارة أجرة
وهناك قائدٌ عسكري، بدينٌ وقصيرٌ
فشلَ في كل المعارك
يحملُ نياشينَ، ميدالياتٍ كثيرة، ويبتسم
أذهبُ إليه، أعضّ ذقنهُ بقوة
فلا يردّ أو يشكو، أبتعدُ
وأحسُّ بآلامٍ في فمي.