علي الوردي صارح مجتمعه بأمراضه، كما لم يفعل أحد من قبل

الوضع في العراق اليوم بما يوفره من تداخلات سياسية واجتماعية ودينية، يدفع إلى استحضار قراءة علي الوردي وتحليله للشخصية العراقية. فالصراع تحركه كلّ الرواسب التي تحدث عنها علي الوردي؛ حيث أن الازدواجية تمزّق المجتمع العراقي والعشائرية تعود متخفية تحت عباءة الطائفية، والصراع السياسي يحتدم بين السنة والشيعة. وإذ تنشر “العرب” مقتطفات من كتاب “خفايا من حياة علي الوردي”، للصحفي سلام الشماع، استكمالا لما نشر في عدد الأمس، فهي تفتح نافذة جديدة عما تركه الوردي من أفكار ومعارك وخلافات.
روى لي الدكتور عبد الأمير الأعسم حكاية أخرى مطابقة لهذه الحكاية مع اختلاف بطلها.. قال: طلب مني الصديق الدكتور محسن خليل، مرّة، عندما كان سكرتيرا لرئيس الجمهورية الراحل صدام حسين بأن يزور الوردي لكي يطلب منه بعض كتبه التي نفدت، فذهبنا لزيارته بلا موعد!! فكان عتاب الوردي لي مرّا: كيف أجلب سكرتير الرئيس لزيارته وهو بملابس النوم؟ لكنه كان سعيدا لأنه اعتبر طلب مكتب الرئيس لكتبه المفقودة سينصره على المسؤولين الذين صاروا لا يسمحون له بالسفر صيفا إلى بولندا.
وقد تكون الروايتان صحيحتين، فالرواية الأولى كان بطلها مرافق الرئيس أرشد ياسين وهذه بطلها السكرتير الإعلامي للرئيس الدكتور محسن خليل، وربما ذهب الاثنان، فعلا، إلى الوردي.
من منع كتب الوردي؟
إني لم أسمع من الوردي أن كتابا له منعت الرقابة طبعه، وسألت الشاعر حميد سعيد، الذي قضى سنين طويلة مسؤولا في وزارة الإعلام، فنفى علمه بذلك، ولكنه قال «إن الوردي قدّم إلى الرقابة في وزارة الإعلام أحد أجزاء كتابه “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” وفيه ملحق عن الماسونية فتخوف المسؤولون من إعطائه الموافقة بسبب هذا الملحق، ثم أشاروا عليه بتكليفي بمراقبة الكتاب، وكنت مديرا للتأليف والترجمة والنشر، والرقابة ليست من مسؤوليتي، فقدّم إليّ الوردي مسودة كتابه وقال لي: إنهم قالوا إنك تستطيع إجازة هذا الكتاب، فجلس في مكتبي ومازحته قائلا: ربما رفضوا إجازة كتابك لأنك ماسوني فعلا، فأراد الوردي أن يسحب نسخة كتابه من أمامي وهو يقول: يبدو أنك لا تختلف عنهم».
الوردي وهارون الرشيد
|
أذكر أن اجتماعا مشتركا عقد للقيادتين القُطرية والقومية لحزب البعث العربي الاشتراكي ومجلس قيادة الثورة، بعد الحرب العراقية الإيرانية لمناقشة إمكانية تحقيق التعددية الحزبية في العراق.
وفي ذلك الاجتماع تحدّث أحد الأعضاء بما يشبه التحريض ضدّ الوردي، ونقل للرئيس أن الوردي يقول في مجالسه وكتبه إن هارون الرشيد يمتلك ألفي جارية، وكان هذا العضو استقى هذه المعلومة من جدل جرى بين الشيخ جلال الحنفي وبين الوردي، وكتبه الحنفي في زاويته الصحفية في جريدة “القادسية”، بما يشبه التحريض أيضا، ولكن أيّ إجراء لم يتّخذ ضدّ الوردي، في حينه، فلو كان للرئيس أيّ قصدية تجاه الوردي فإن مثل هذا الحديث كان أفضل فرصة للانتقام منه، إن كانت هناك نية مبيتة ضدّه.
ويقول الدكتور جليل العطية، في مقالة نشرها في مواقع إلكترونية عنوانها “علي الوردي: ماذا يبقى منه؟”
«وحقق “لمحات اجتماعية” نجاحا مذهلا وتوقف سنة 1978 عن نشره، وخلال السنوات الأخيرة من حياته استأنف -الوردي- نشاطه المحدود من خلال المجالس الأدبية التي تضاعفت خلال السبعينات والثمانينات إثر منع السلطة سفر معظم رعاياها إلى الخارج، كان -الوردي- مستمعا أكثر منه مشاركا لخوفه من العيون المراقبة، التقيت الوردي فعلا في عدد منها، أذكر منها مجالس السادة: مكي السيد جاسم، د. حسين أمين، محمد جواد الغبان.
كان هؤلاء يغرونه بالحضور، ويعدّون له خلاصة عن أهم ما ينشر في الوطن العربي من كتب أو مقالات جادة وهو ما كان قد حرم منه بسبب منع استيراد الكتب ومعظم المطبوعات.
وفي هذه الأثناء استدعاه نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ومسؤول المكتب الثقافي في الحزب صدام حسين فاعتذر هامسا في أذن الشخص الذي أبلغه الاستدعاء أنه لم يسبق له أن قابل أيّ مسؤول عراقي كبير لا في العهد الملكي ولا الجمهوري لأن موقفه من السلاطين معروف.
ويبدو أن الشخص الذي كلف باستدعاء الوردي لمقابلة صدام حسين بالغ في تبيان أسباب اعتذار صاحب “وعاظ السلاطين”، فعوقب الوردي وحرم الناس من كتبه التي ظلت ممنوعة داخل العراق، مما لا حاجة لتفصيله».
|
الاستعانة بمدير أمن
دفعني ما قاله الدكتور العطية إلى أن أسأل أحد المديرين في مديرية الأمن العامة وهو السيد عبدالعزيز الراوي، الذي كانت له صلات بالوسط الثقافي والديني في العراق بحكم منصبه، عن حقيقة منع كتب الوردي، فأجابني بما نصه «أما في مديرية الإعلام التي توليت مسؤوليتها منذ تأسيسها بداية التسعينات من القرن الماضي، فلا توجد أية معلومة أو متابعة لما ينشره الوردي أو ما ينشر عنه، وهو كثير في الصحف والمجلات التي كانت تصدر في العراق، ولم تعرض علينا رقابة المطبوعات أية مسودة كتاب يروم إصداره، ولم يجر التدخل أو منع ما يروم إصداره. ولم يجر الحديث مع أيّ صحفي كان يكتب عنه وعن كتبه أو طلب منه عدم ترويج ذلك، وحضرتك أحدهم».
ومن المستغرب أن يوجه سؤال إلى باحث اسمه الدكتور قاسم حسين، الذي باعترافه أنه التقى الوردي مرتين، وهو: كيف كانت علاقة علي الوردي بالرئيس الراحل صدام حسين؟ فيجيب عن السؤال بما نصه «ثمة حقيقة هي أن الحاكم العراقي لا يحب علماء النفس والاجتماع إلا أولئك الذين يقولون له ما يحب أن يسمعه، والوردي كان يقول الحقيقة، وطبيعي أن لا تكون هنالك علاقة مودة بينه وصدام حسين، إنه أبلغ بأن “السيد الرئيس غير مرتاح لما كتبته”. وله الحق أن لا يرتاح له، فهو اسمه علي حسين الوردي وكظماوي وصاحب كتاب “وعاظ السلاطين”، ولم يكتب ما يمجّد صدام كما فعل أكاديميون كثر».
إن هذا الباحث يحاول أن يجرّ هذا الزعم إلى المنطقة الحرام في فكر الوردي وسلوكه وهي الطائفية، ثم إن إجابته لا تضم على ما يدل أو يثبت أو يؤكد أن الرئيس لا يرتاح إلى الوردي، وهو أيضا لم يقل لنا من أبلغ الوردي بأن صدام لا يرتاح إليه. “إنه رجم في الغيب” كما يقول البغداديون.
ويقول هذا الباحث، أيضا، في إجابته نفسها «ولقد كتب لي الأخ أحمد السيد علي بأن صحيفة أميركية أجرت في نهاية ثمانينات القرن الماضي حوارا مع الوردي حول الشخصية العراقية، وإنها كانت أجرت قبلها حوارا مع الرئيس صدام حسين عن الشخصية العراقية أيضا كان رأيه فيها مخالفا لتوصيف الوردي، وحين واجهته الصحيفة بذلك تملّص بإجابة دبلوماسية بأن العراق في حالة حرب والقصد مختلف».
لا أدري كيف نقل الدكتور قاسم حسين هذه الرواية من دون أن يدقق فيها أو يسأل عن تفصيلاتها الحقيقية، وهي جرت كما قدّمنا لها في سطور سابقة، وكما عرفت من الوردي نفسه ومصادر صحفية مقربة، وأخيرا كما أكدها لي الدكتور سعدون الزبيدي الذي كان مترجما للرئيس.
هذه كلها مؤشرات توضح أن علي الوردي كان موضع احترام وتقدير، ولا يوجد أيّ مؤشر في التعامل معه أو مع كتبه بنحو سلبي. وتجدر الإشارة، هنا، إلى أنّ التقوّلات والشائعات التي انطلقت ضدّ الوردي كانت تعود إلى سبب رئيس تتحمله الدولة وهو “ضبابية” موقفها منه. ولو كانت قد حدّدت موقفها منه بوضوح سلبا أو إيجابا لكان أفضل لها بكثير من حالة الضبابية تلك التي خلطت الأمور وأساءت إلى نفسها بها.
اقرأ أيضا
صدام حسين وعلي الوردي: ثنائية التنافر والالتقاء