قصص مغربية تبني عوالمها من قوة الإضمار وتكثيف المفارقات

كتاب “البلح المر” هو الإصدار الحديث للكاتبة المغربية دامي عمر الذي حمل مقدّمتين لكل من عمر العلوي ناسنا وسعاد مسكين، وهو مجموعة من القصص القصار الحلوة التي ترصد أو تنسج مفارقات مرة تؤكد العنوان والتصدير والمتن والتظهير.
مبعث المفارقات في مجموعة “البلح المر” هو أن كل عنصر فيها يستدعي قرينه النقيض، استدعاء جدليا يجعل من الكتابة لدى دامي عمر تضعيفات مرآوية للصور واللوحات والمشاهد، وتداخلا لا ينتهي من “المحاسن والأضداد” وفق تعبير الجاحظ.
القص والقصاص
الواقع أن فاطمة جحا (وهو الاسم الحقيقي لدامي عمر) ارتأت الاشتغال على التجاذبات، علما بأن هذا المنطق ذاته هو واحد من الخصائص الجوهرية لفنية هذا النوع من التسريد. وقد خاض النص الذي تستعير المجموعة عنوانه هذا التحدّي الذي تنحكي فيه رواية طويلة داخل محكي شديد القصر، حيث يقود القصّ إلى القصاص، على غرار ألف ليلة وليلة معكوسة، بحيث سيختفي الكاتب (علوان العايق) وتبقى الرواية بلا اكتمال.
الدلالات تبنى أثناء فعل التلقي لا قبله، وتتجسد بواسطة الأشكال عبر التصريح والإضمار
وهي نهاية طبيعية لواقع تخييلي غير طبيعي تجنح فيه الكاتبة إلى الإضمار والتكثيف ضمن المساحات الضيقة لإبدال حكائي وليد ما يزال يبحث له عن تجنس يليق به في إمبراطورية السرد. سيكون البحث عن مقول القول في سبعة ومئة مسرد قصصي مينيمالي مصادرة على مشترك افتراضي ليس إلا. نظرا لتعدد القضايا المطروحة واختلاف سياقاتها الشارطة، ما دامت لكل ومضة أسباب اشتعال واشتغال، فالفن يبتغي، فضلا عن المعنى، لازم المعنى والخروج عن مقتضى الحال. ذلك لأن تلمس النواظم في الكتابة ينبغي أن يتجه إلى الأسلوب بالدرجة الأولى، خاصة وأن ما يمنح الفن شعريته، بل ومعناه هو الصوغ الجمالي.
وفي هذا السياق يمكن فهم قولة بول فاليري “إن الشكل يكلف كثيرا”. فالشكل، كما نعلم، مرادف للأسلوب. وإذا كانت هذه الكلفة لا مناص منها في الخطابات الواصفة فما بالنا في كتابات أدبية تحتفي بـ”صنعة الكتابة”.
وخز إبر
تشخص هذه “المناقرة” موقفين مختلفين من الشعر وضرورته، موقفَ المتلقي (وهو هنا الزوج) الرافض والشكاك، لاعتبارات لا علاقة لها بالشعر، وموقفَ المبدع (وهي هنا الشاعرة) غير الواثق والمرتبك.
|
ولِحَل هذا التناقض كان من الضروري الانتصارُ للشعر عبر طرف ثالث هو العشيق الذي ما ينفك يدغدغ تردد الشاعرة بقوله لها “ما أروعك وأنت تكتبين”. ولأن التسريدات القصار زئبقية وتقتات من المفارقات، فإن قيمة ما تكتبه شخصية هذه القصة، هنا، وجدواه يقف على الحد الفاصل بين رؤية الزوج ورؤية العاشق في تعارضهما. فكلاهما له منطقه وحساباته في لعبة التوازنات المفتقدة: لعبة الكتابة التي قد يجد فيها الكاتب نفسه، أحيانا، وهو يبحث عن إلهام، في حالة إفلاس (قصة حالات). قد يمس حياته الشخصية بالأساس. وفي تنويع آخر ضمن نص “عناقيد الخيانة” نجد “الشاعرة” تلوم، في أوراقها الخاصة، زوجها الذي يتوق إلى العيش ضمن “حيوات متجاورة” على حساب واجباته الزوجية معها.
والإحالات على عوالم الكتابة في مجموعة “البلح المر” كثيرة واشتغالاتها متنوعة. فإذا كان نص “أجراس السؤال”، مثلا، يستدعي رواية “لعبة النسيان” لمحمد برادة”، فإن نص “معطف الآخر” يحيل إلى “معطف” غوغول، فيما نص “المقاعد المتقابلة” يستدعي “زهور الألم” لبودلير، بينما نص “فاوست الخاسر” فيتناص مع “فاوست” لغوته، أما نص “ميتامورفوز” فيستدعي عوالم كافكا، ونص “بكائيات” يتصادى ومطلع معلقة امرئ القيس، وهكذا.. ولئن كان هذا التداخل يتقصد تماهيا بين المتن والمتن، أي بين ما تحكيه نصوص دامي عمر وما تحكيه نصوص سواها، فإن هناك اشتغالات أخرى تنكتب فيها النصوص لدى صاحبة “البلح المر” بواسطة الأشكال المتجلية تارة في جوامع نصية لأجناس أدبية بعينها: المقامة في نص “المقامة الأخيرة”، المسرحية في نص “النص والبيضة”، السيرة الذاتية في نص “سيرة ذاتية” المسرح في نص “الكوميديا المرة، إلخ..
رقصة تونغو
إن سؤال الكتابة، على تعدّد مقاصده، لدى دامي عمر، يتخذ طابعا اطراديا في كثير من النصوص، وهو لا يرتبط بجنس أدبي دون سواه، في الشعر كما في النثر، بل إنه يتعدّى الكتابة، بدوالّ الكتابة إلى الكتابة بدوالّ فنون أخرى غير لغوية.
وهكذا تتوسل الكاتبة لتحبك متخيلاتها، فضلا عن ترسيبات أدبية وفلسفية ودينية، عوالم وتقنيات فنون بصرية، ويبدو أثر الرسم والتشكيل واضحا في نصوص “ذيل طاووس أخضر” والنحت في نص “التمثال” والموسيقى في نص “رقصة تونغو” والسينما في نص “لقطة”.