ماتيس المنبهر بالمرأة والطبيعة تأثر بالشرق وألوانه الحارة

بين مدينة نيس وهنري ماتيس (1869 – 1954) وشائج تضافرت عاما وراء عام، منذ أن قدم إليها بحثا عن جو دافئ يداوي نزلة أصابته، فاحتضنته طوال سبعة وثلاثين عاما، ومهدت له سبل إنجاز أشهر أعماله، ولما قضى نحبه أقامت له متحفا يخلّد اسمه.
لم يكن ماتيس يتصور، وهو ينزل بأحد فنادق نيس في ديسمبر 1917 تحت وابل من المطر أنه سيقيم في هذه المدينة حتى النهاية، إن هي إلا فترة نقاهة ثم يعود من حيث أتى، ولكن ما كادت الغيوم تنقشع في اليوم التالي حتى انبهر بالضياء الذي يغمر وجه المدينة، ضياء كان الزائــر يتابع انتشاره من شرفة غرفته المطلة على خليج الملائكـــة، ويتملى سطوعـــه واعتداله وخفوته حتى ألف المدينة والناس، واختار الإقامة.
مجرد ملون
ماتيش حفر مجراه متنقلا بين عدة مدارس
استفاد ماتيس من دروس أستاذه، فمضى يحفر مَجراه متنقلا بين عدة مدارس كالتعبيرية والانطباعية الجديدة والتنقيطية والتجريدية والتكعيبية، قبل أن يتزعم الحركة الوحشية مع براك ودوران في مطلع القرن العشرين، بابتكار طريقة جديدة تقوم على اللون الصافي خاليا من أي خليط، فاستعمل ألوانا فاقعة، متجانسة كالأزرق والبنفسجي، أو فمعادلة متقابلة كالأحمر والأخضر.
كان يبسط لونا موحدا بسطا عريضا على مساحات كبيرة، ويحيطها عادة بخط أسود، مما أثار حفيظة النقاد وهواة الفن الذين اعتبروه مجرد ملوِّن. وبالرغم من ابتعاده عن مغالاة الوحشية وعنف الألوان، ظل محافظا على ذلك المبدأ طوال حياته، مثلما ظل يبحث عن طريقة لتنظيم الألوان داخل الفضاء أو ما سماه توازن القوى.
فنان متوحد
رائد الوحشية ينظر إلى العالم بعيون طفل
في نيس لم يعد ماتيس ذلك الفنان الأنارشيست، رائد "الوحشية" المثير للجدل عقب كل معرض، ولا رأس حربة الفن الأكثر جدة إلى جانب بيكاسو ودوشامب وبيكابيا. صار يستلهم من ضياء الساحل اللازوردي وزرقة المتوسط ودفء المناخ التي لم يجدها في الشمال البارد أعمالا تبدو بسيطة في الظاهر، ولكنها "ثمرة نور ساطع" كما قال عنها أبولينير. عاش منبهرا ينظر إلى العالم بعيون طفل.
وامتد نشاطه فترة لا يعادلها من حيث طولها سوى بيكاسو، ولكن ماتيس بخلاف صاحب "غيرنيكا" بنى آثارا لا تستجيب لغير فكرة واحدة هي البحث عن توازن الألوان والأشكال، توصل في آخر حياته إلى تجسيدها على اللوحة.
وبرغم الحرب والمرض والشيخوخة، ظل حس الخلق الفني لديه قائما، إذ استعاد سَورة ألوان "الوحشية" لرسم الفضاءات الداخلية الكبرى ما بين 1946 و1948، واستحضر كافة أنواع الفنون لتزويق مصلّى كنيسة فانس عام 1951، ثم بلغ فنه أوجَهُ في قصاصات ذات صبغة كثيفة توحي بالرقص أو الاستراحة، بالمرأة العارية أو الكسلى، بالأشجار والأزهار، كل ذلك بمزيد من التجرد، ومزيد من التوحد. طوال حياته، لم يكن ماتيس يتبع غير حدسه، وهو إذ خاض تجارب كثيرة لمدارس متنوعة، يبقى عصيا عن التصنيف.